مجموعة من المثقفين والإعلاميين والناشطين السياسيين الفلسطينيين طرحوا رؤية لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس حل الدولة الواحدة ثنائية القومية بدلاً من حل الدولتين الذي بات حلاً غير واقعياً وفق رؤيتهم لمجموعة من العوامل فيها من المنطقية الشيء الكثير من الناحية النظرية، ولكن من الناحية الواقعية يحتاج الأمر للكثير من النقاش والتحليل لمعرفة مدى إمكانية تطبيقه، كون أي طرح تكون إمكانيات تنفيذه غير ممكنة يكون عبارة عن نوع من الترف الفكري والسياسي ليس إلا.
وقد ساق أصحاب هذا الطرح وهذه الرؤية مجموعة من العوامل التي تبرر طرحهم القائم باتجاه دولة واحدة، وأول هذه المبررات تقوم على أساس فشل الحركة الوطنية الفلسطينية في تحقيقها لمهامها الوطنية “التحريرية والبنائية”، ناهيك عن حالة الترهل التي تعيشها مؤسسات الشعب الفلسطيني وعلى رأسها مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية بكافة فصائلها، وكان من نتاج هذا الفشل والترهل المرافق له عدم القدرة على صون المنجزات، وأدى لتبديد التضحيات،هذا بالإضافة لتمسك السلطة الوطنية الفلسطينية بعملية سلام فقدت معناها ومحتواها.
والعامل الأخر الدافع لمثل هذا الطرح هو السياسية الاحتلالية القائمة على أساس التوسع الاستيطاني العنصري القائم على فرض وقائع على الأرض جعلت من أمر حل الدولتين أمر غير قابل للتنفيذ على الأرض فعلياً بسبب تحويل الأراضي المحتلة في العام 1967 لمجموعة من الكنتونات التي لا تمكن من قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة على هذه الأرض، كما كان للمواقف العربية والدولية تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية الكثير من التأثير على المجموعة صاحبة “رؤية حل الدولة الواحدة”.
والمسألة الأولى التي تميز بها طرح أعضاء هذه المجموعة هي التشخيص السليم والدقيق للواقع الفلسطيني من مختلف جوانبه السياسية والقيادية والمؤسساتية، ولكن اللافت للنظر أن هذا التشخيص السليم لم يقودهم في النهاية لطرح العلاج السليم للمسألة، وهذا الاعتقاد لدي بعدم دقة العلاج لحالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لما بعد التشخيص مرده لمجموعة من العوامل سواء كان على الصعيد الفلسطيني أو الإسرائيلي.
فلسطينياً:
أولاً: هذا التشخيص السليم للواقع الفلسطيني كان من المفترض أن يسير باتجاه توحيد أفكار وجهود هذه المجموعة تجاه الداخل الفلسطيني بالدرجة الأولى على أساس السعي لوضع برنامج إصلاحي لمؤسسات الشعب الفلسطيني المترهلة والمتهالكة في كافة أجزائها البشرية منها والمادية، لا أن تكون هذه الجهود باتجاه بلورة طرح لحل سياسي بعيداً عن هذه المؤسسات (مع أن المجموعة لا تطرح نفسها بديلاً عن أي إطار أو جهة) التي يفترض أن تكون الجهة القائدة لأي طرح سياسي عندما تكون ذات بنية صحيحة تمثل كافة قطاعات وتوجهات الشارع الفلسطيني.
ثانياً: العمل باتجاه بلورة رؤية سياسية جديدة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ظل حالة الانقسام والتشتت التي يعيشها شعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة فيها الكثير من عدم المنطقية، ولن تلاقي درجة من الاهتمام والنقاش حولها لبلورة رأي عام حولها (داعم أو معارض) كون حجم الصعاب والمشاكل التي نعيش لا تجعلنا مؤهلين للقفز عن هذا الواقع وهذه الصعاب والتفكير في حلول سياسية لن تكون في صالحنا في ظل هذا الانقسام والتشرذم الداخلي.
ثالثاً: بلورة حل سياسي فلسطيني بعيداً عن برنامج مقاوم مرافق له يجعله دون محتوى كوننا نتعامل مع احتلال لدية من العنصرية والفاشية ما لا يؤهله للتعامل مع الحلول باختياره البحت، فبدون رفع كلفة الثمن الذي يدفعه الاحتلال لاغتصابه الأرض الفلسطينية لن يكون هذا الاحتلال مستعد للتفكير في حل عادل وقابل للتنفيذ في إطار هذا الصراع الذي تجاوز عمره الستون عاماً.
رابعاً: رؤية حل الدولة الواحدة لم تعرض حلولاً واضحة ومقبولة للقضايا الأساسية في الصراع وهي قضايا اللاجئين، الحدود، القدس والاستيطان، حيث أن ما دعت إليه الرؤية هو “تذويب مختلف الجوانب الرمزية والحادة في الصراع ضد المشروع الصهيوني في بعده الفلسطيني – الإسرائيلي”، ولكن كيف يكون ذلك؟، غير واضح البتة في طرح هذه الرؤية.
خامساً: طرح المزيد من الحلول السلمية الفلسطينية في ظل منهج الاحتلال الحربي والتوسعي يظهرنا بمظهر الضعف والاستعداد للقبول بأي طرح، وخاصة أن هذه الطروحات تأتي في مرحلة يمكن اعتبارها من أسوء المراحل في تاريخ الشعب الفلسطيني ومسيرته النضالية، ولهذا السبب علينا إيلاء الوضع الداخلي مزيداً من الاهتمام في هذه المرحلة.
خامساً: على الرغم من حق الجميع التفكير والبحث عن آليات في حل صراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلا أن هذا الأمر يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أن من يعيش من الفلسطينيين في الشتات والمهجر أكثر بكثير ممن يعيشون على الأرض المحتلة، بالتالي وضع أية آلية أو مقترح لحل الصراع يفترض تحقيق الشمولية (ما بين الداخل والخارج) في التشاور ووضع التصورات النهائية المقترحة في هذا المجال، وقصر الأمر على مجموعة من الإعلاميين والمثقفين يجعل من الأمر ليس أكثر من شطحات فكرية وسياسية كان لها آثار سيئة على الوضع الفلسطيني في تجارب وطروحات سابقة قامت عليها مجموعات مختلفة على مر سنوات النضال الفلسطيني.
إسرائيلياً:
أما فيما يتعلق بالجانب الإسرائيلي فإن مجموعة الرؤية الجديدة للحل أعطت انطباع وكأننا نتعامل مع مجتمع طبيعي ومتزن ولدية صفات إنسانية كغيره من بني البشر، فنحن نتعامل مع مجتمع إسرائيلي تربيته قائمة بالأساس على العنصرية وإلغاء الآخر، لا بل نظريات الإبادة والترانسفير هي ثقافة المستوى الشعبي لديهم قبل أن تكون ثقافة رجال السياسية والعسكر، بالتالي المناداة بطرح فكرة حل الصراع هذه على المجتمع الإسرائيلي لتحريره من أفكاره العنصرية والاستعلائية ليس فيها من المنطقية شيء كون هذه المظاهر وهذه الثقافة في تزايد مستمر في المجتمع الإسرائيلي، وتتناسب تناسب طردي مع زيادة عمر الاحتلال، هذا من الناحية النظرية، ومن الناحية العملية فالواقع على الأرض في الطرف الآخر يجعل من هذه الرؤية مسألة صعبة المنال ومستحلية التحقيق لمجموعة من العوامل هي التالية:
أولاً: التفوق لدولة الاحتلال في كافة الميادين العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية ستجعل لهم الغلبة والسيطرة على الأرض والإنسان، وتحول المجتمع الفلسطيني لطبقة الخدم والعبيد في هذه الدولة الواحدة كون موضوع المعرفة والتطور العلمي والواقع الاقتصادي ليس في صالحنا نتاج لسنوات الاحتلال الطويلة وليس لعوامل قصور ذاتي لدى الشعب الفلسطيني.
ثانياً: لا يوجد في الجانب الإسرائيلي من هو مستعد لنقاش مثل هذا الطرح، لا بل العكس هو الصحيح فالطرح الإسرائيلي على المستويات الرسمية والشعبية يتعزز باتجاه دولة يهودية أحادية القومية، مما يعني حتى فلسطيني العام 1948 هم على جدول الترحيل والتهجير بالنسبة للمجتمع اليهودي وقيادته السياسية.
ثالثاً: المجتمع الدولي والنظام الرسمي العربي لم يعد حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أجندته، وإنما تعزيز العلاقة مع دولة الاحتلال بات الهدف لدى النسبة الغالبة، وما يتشدقون به من السعي لحل عادل للصراع هو وسيلة فقط للتطبيع وتوثيق العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، وما سياسية دولة قطر، والتعامل المصري مع تحقيق تهدئة فلسطينية إسرائيلية إلا الدليل الواضح والقاطع على ما يمكن أن تحققه لنا هذه الجهات التي تريد مجموعة الرؤيا العمل عليها لإقناعها بالفكرة، وعن مواقف المجتمع الدولي في هذا السياق يكفينا خطاب بوش في الكنيست الإسرائيلي في ذكرى النكبة، هذا الخطاب الذي سيكون بمثابة الكتاب المُنزّل لدى معظم القادة السياسيين في المنطقة والعالم، والاتحاد الأوروبي كذلك ليس بعيد عن هذا النهج الأمريكي، لا بل مشاريعه أخطر بكثير وخاصة تلك التي تتم تحت عباءة المشاريع الأورو متوسطية والتي تهدف لدمج دولة الاحتلال في المجتمعات العربية دون تقديم أية استحقاقات سياسية تجاه حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
في نهاية الأمر بات الشعب الفلسطيني “كالأيتام على موائد اللئام”، فنحن لم نعد على أجندة أي جهة دولية أو إقليمية إلا في الإطار الذي يخدم مصالح هذه الجهات الإقليمية والدولية، وهذا الوضع يحتم علينا السير باتجاه مختلف عن اتجاه طرح تصورات للسلام وحل الصراع مع الاحتلال بالشكل القائم في هذه المرحلة، فالاتجاه يجب أن يكون في إطار خلق أوسع قاعدة شعبية في الشارع الفلسطيني من أجل نفض الغبار عن مؤسسات منظمة التحرير التي باتت بالية لدرجة حاله من الموت السريري، وجعل هذه المؤسسات ممثلة لكافة أطياف الشعب الفلسطيني سواء كانت إسلامية أو ديمقراطية أو علمانية، ناهيك عن ضرورة السعي لتنحية بعض الشخوص الذين باتوا عبء على هذه المنظمة وعلى مختلف مؤسساتها، وبدون أي تمثيل جماهيري أو شعبي في الشارع الفلسطيني، والذي لم يعد لهم دور سوى توتير الأوضاع الداخلية الفلسطينية تعطي الانطباع بأنها مبرمجة ومدروسة.
والخطوة الثانية ضرورة العمل على توحيد صفوف المقاومة الفلسطينية بشكل تجعل منها أكثر جدوى وأكثر تنظيم، وعدم ترك هذا الموضوع المهم والحساس في أيدي مجموعات تتعاطى معه من منطلق أجندات تنظيمية وحتى مصالح شخصية في الكثير من الحالات، وتنظيم شأن المقاومة هذا يكون مرتبط ببلورة برنامج سياسي يشكل الحد الأدنى بين كافة فصائل العمل الوطني الفلسطيني بهدف وضع حد للصراع مع دولة الاحتلال بالصورة المتفق عليها وطنياً، وكل هذا لا يتحقق دون الخروج من حالة الانقسام والتشرذم الداخلي الذي يعيشها الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية ومؤسساته الشعبية.
وحين يتم ترتيب الوضع الداخلي على مختلف الصعد حينها يمكن بلورة حل متفق عليه بغض النظر عن شكله المهم تحقيق التوافق عليه والعمل من أجل تحقيقيه سواء كان حل الدولة الفلسطينية من النهر إلى البحر أو حل الدولة في حدود العام 1967 أو حتى حل دولة واحدة ثنائية القومية، وبالتالي الخروج من موضوع القوالب الجاهزة والجامدة للحل، وأخذ كافة الظروف السائدة بعين الاعتبار، وأي اتفاقية أو معاهدة توقع تكون خاضعة للتغير في ظل المتغيرات المحلية والدولية.
*- كاتب فلسطيني