باتت الدعوة التي أطلقها الرئيس محمود عباس إلى الحوار الوطني الشامل، هي الشغل الشاغل، ليس للحالة الفلسطينية فقط، بل وكذلك للدوائر الإقليمية والدولية ذات الاهتمام والصلة بالموضوع الفلسطيني.
وأياً كانت خلفية الدعوة، فإنها تشكل، في كل الأحوال، خطوة إلى الأمام ، انطلاقاً مما تعانيه الحالة الفلسطينية من انقسام مدمر، عكس نفسه، ليس فقط حصاراً على قطاع غزة، بل وكذلك على مجمل الوضع الفلسطيني، بتشعباته وتعقيداته الموصوفة؛ على المسار التفاوضي مع إسرائيل، على أعمال المقاومة المسلحة داخل الأرض المحتلة. على قضية اللاجئين والقدرة على صون حقهم في العودة من التآكل. والأهم من هذا كله، على مجمل البرنامج الوطني الفلسطيني، إذ انزلقت الحالة الفلسطينية، بفعل الانقسام المتأتي من انقلاب حماس، إلى الانشغال بالقضايا الجزئية، وعلى حساب الانشغال بالقضايا الجوهرية التي من شأنها أن تقصر رحلة العذاب، وأن تخفف من آلام الشعب، وأن تقرب ساعة الحل، وأن تضع حداً للحالة المأساوية التي نعيش.
وندرك ـ بلا شك ـ أن دعوة عباس إلى الحوار لا تعني أن كل القضايا المعقدة التي تثقل الحالة الفلسطينية قد وجدت طريقها إلى الحل، أو أنها على وشك أن تجد هذا الطريق. الدعوة ما هي إلا خطوة أولى على طريق طويل وشائك، ندرك مدى صعوبته، وندرك أنه مليء بالألغام، والمطبات والعراقيل والكمائن، وأن السير عليه يتطلب حذراً شديداً، وفطنة دائمة، وأعصاباً متماسكة، وصبراً، وإصراراً على المجابهة إلى أن تتحقق الأهداف المتوخاة من هذا الحوار، دون السماح لأي طرف أن يحرفه عن المسار الواجب أن يتخذه لضمان وصوله إلى أهدافه. وفي هذا السياق نسجل.
إن الدعوة هي لحوار وطني شامل. والمقصود بذلك واضح، أي أنه معني بجمع الأطراف الفلسطينية كافة إلى طاولة الحوار. الأطراف التي شاركت في حوار القاهرة (2005) والتي شاركت كذلك في حوارات غزة ورام الله (2006) وصادقت على وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى) باعتبارها من أرقى ما توصل إليه العقل السياسي الفلسطيني من توافقات سياسية لصالح القضية الوطنية. وبالتالي فإن أية دعوة للالتفاف على هذه الصيغة كالقول بحوار ثنائي بين حماس وفتح يمهد للحوار الشامل، ما هي إلا حكم بالإعدام على الحوار ودعوة بديلة لإدامة الأزمة الفلسطينية وحالة الانقسام لمدد قادمة، لن يقطف فيها الفلسطينيون إلا الثمار المرة والمسمومة.
إن الإدعاء بأن الخلاف هو بين فتح وحماس، وأن لا خلاف بين حماس وبين باقي الأطراف، وأنه، وعلى هذا الأساس يفترض أن يكون الحوار ثنائياً، إنما هو ادعاء فارغ. فالانقسام ليس بين فتح وحماس. بل هو يشق الحالة الفلسطينية كلها، ويشلها بجميع أطرافها دون استثناء. وانعكاساته لم تقتصر على الطرفين، بل طالت كل مكونات الحالة الفلسطينية. فضلاً عن ذلك فإن أحداً لم يفوض الحركتين لتنوبا عن الشعب الفلسطيني وقواه السياسية وفعالياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنقابية والمهنية، في تقرير مصير القضية الفلسطينية ومستقبلها.
عدا عن ذلك فقد أثبتت التجارب أن الاتفاقات الثنائية، القائمة على المحاصصة، ما هي إلا وصفة ممتازة لإدامة الصراعات الداخلية والانجرار إلى الحروب الأهلية، وانتهاك مبدأ تحريم الدم الفلسطيني ومبدأ عدم اللجوء إلى السلاح في حسم الخلافات السياسية. أكد ذلك اتفاق 11/9/2006 بين الرئيس عباس وإسماعيل هنية لتشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية. ولقد مات الاتفاق قبل أن يولد، لأنه لم يضع حلولاً للنزاع بين الطرفين، بل أسس لنزاع جديد. كما أكد ذلك اتفاق المحاصصة الثنائية الذي وقعه الطرفان في مكة في 8/2/2007. حين تعامل الطرفان مع السلطة باعتبارها مجرد مكاسب، وليست وسيلة لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والاستيطان. وحين تعاملا مع الحالة الفلسطينية باعتبارها مجرد حالة تابعة لهما، تنصاع لما يقرران، وما يتفقان عليه. ولأن المحاصصة تقوم على مبدأ التنافس اللامبدئي، وتقوم على مبدأ العمل الدؤوب على تحجيم الغير وتقزيمه، وتهميشه، تحولت من اتفاق، إلى الأساس لصراع جديد، اشتعلت نيرانه، وانفجر حرباً طاحنة، أوقعت مئات القتلى في صفوف الشعب الفلسطيني، وأطاحت بالتراث الثوري الذي راكمه الشعب الفلسطيني خلال سنوات ثورته وانتفاضاته. وتحول القتل إلى وسيلة لحل الخلافات. وصار الحسم العسكري بديلاً للحوار، فكان الانقلاب الدموي في 14/6/2007، والانقسام المدمر الذي مازلنا نعاني نتائجه وتداعياته. وبالتالي إن الخروج من هذا الوضع هو مسؤولية كل أطراف الحالة الفلسطينية وليست مسؤولية أطراف دون غيرها.
وعلى قاعدة ما سبق، يصبح من الضروري الاتفاق على أسس الحوار. في كلمة الرئيس عباس، اقترحت المبادرة اليمنية، كما صادقت عليها قمة دمشق العربية، أساساً للحوار الوطني الشامل. وهي مبادرة تدعو إلى حوار وطني شامل، وتعترف بإعلان القاهرة، وبوثيقة الوفاق الوطني. وهي مبادرة لدولة عربية شقيقة، تبنتها الدول العربية على اختلاف اتجاهاتها. أي أنها مبادرة ذات رعاية عربية، نرى أنها تصلح أساساً للحوار الشامل، مستندة في الوقت نفسه إلى إعلان القاهرة ووثيقة الوفاق الوطني. غير أن الملاحظ أن بعض الأصوات، وهي ترحب بمبادرة الرئيس عباس للحوار، تعمدت أن تخلط بين المبادرة اليمنية وبين إعلان صنعاء. علماً أن الوثيقتين، ليستا واحدة. فالمبادرة اليمنية كما أسلفنا، هي مبادرة عربية، ترعاها جامعة الدول العربية. وإعلان صنعاء، هو اتفاق ثنائي بين حماس وفتح، وقعه كل من موسى أبو مرزوق عن حماس، وعزام الأحمد عن فتح. ونعتقد أن تبني القمة العربية للمبادرة اليمنية وأن موقف الرئيس عباس في اعتبار أن هدف الحوار هو تنفيذ المبادرة اليمنية بكل بنودها، هما خطوتان مهمتان، وضعتا إعلان صنعاء خلف الظهر وبات موضوعاً غير ذي صلة ـ كما يقولون ـ نستدل على ذلك بدليلين: الأول هو أن الدعوة هي للحوار الشامل، وليست للحوار الثنائي. الثاني إن إعلان صنعاء مات قبل أن يولد هو الآخر.
في السياق نفسه، يلاحظ أن البعض في ترحيبه بدعوة عباس أقحم، إلى جانب إعلان صنعاء، اتفاق مكة. وإذا ما اعتبرنا الحوار شكلاً من أشكال المراجعة النقدية الشجاعة، فإن الشجاعة تقول إن الاتفاق الموقع في مكة، مات صريعاً برصاص الانقسام الذي لعلع في شوارع غزة في 14/6/2007، وبالتالي فإن الحوار المنشود، لن تكون وظيفته إعادة الحياة إلى وثائق واتفاقات وصفقات صارت جثثاً، تآكلت وتعفنت وأزكمت رائحتها الأنوف. كما أن وظيفة الحوار لن تكون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والانشداد إلى الخلف. نقول المبادرة اليمنية لأنها مستندة إلى إعلان القاهرة ووثيقة الوفاق الوطني، وهما الوثيقتان اللتان تواطأ أكثر من طرف (وفي المقدمة فتح وحماس) على تعطيلهما وليست مصادفة ـ على الإطلاق ـ أن من شروط الوصول إلى اتفاقات المحاصصة، تعطيل وثائق الوفاق الوطني. لأن كلاً منهما ينتمي إلى برنامج مختلف، تبدو علاماته جلية في النصوص والعبارات.
وعلى خلفية هذه المقدمات ينبغي أن نتساءل: ماذا نريد من الحوار الوطني الشامل؟ هل يكفي أن تتراجع حماس عن نتائج الحسم العسكري، وأن تعيد المقرات إلى السلطة الشرعية. وهل يكفي أن نتفق على حكومة وحدة وطنية نتشارك فيها جميعاً، وأن تتحول هذه الحكومة إلى هدف بحد ذاته. هل يكفي أن يتوقف الاعتقال السياسي، وأن يطلق سراح السجناء السياسيين لدى الطرفين؟ هل يكفي أن تتوقف الحملات الإعلامية الضارة والمؤذية من قبل الطرفين؟ كثير من هذا مطلوب بلا شك. لكن المسألة الأهم تتناول نقطتين: الأولى إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني الفلسطيني. باعتبارنا حركة تحرر تناضل من أجل الحرية والاستقلال والسيادة والعودة. وهذا يعيدنا بالضرورة إلى وثيقة الوفاق الوطني. فهي الوثيقة التي صاغت بوضوح شديد، وببراعة موصوفة، أهداف النضال الوطني الفلسطيني، وصاغت بالبراعة نفسها، آليات العمل النضالي لتنفيذ هذا البرنامج وتحقيق أهدافه. الثانية العمل على تطوير النظام السياسي الفلسطيني، لإخراجه من أزمته، وتحصينه، وتمليكه العوامل والعناصر والآليات التي تمكنه من الارتقاء إلى مستوى القضية الوطنية، وبما يحوله إلى نظام مفتوح للشراكة السياسية الشاملة، وليس نظاماً مغلقاً وحكراً على طرف أو طرفين دون غيرهما. ونعتقد أن المدخل السليم لتطوير هذا النظام، بكل مكوناته، هو اعتماد قانون انتخابات عصري ومتقدم؛ كما وصفه إعلان القاهرة، وهو قانون الانتخابات القائم على مبدأ التمثيل النسبي، كما أقرته وثيقة الوفاق الوطني. ولقد خطا المجلس المركزي لـ م.ت.ف. خطوات هامة إلى الأمام حين أقر ضرورة اعتماد هذا المبدأ (التمثيل النسبي) في قانون انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني الجديد، والمجلس التشريعي، والمجالس البلدية والجهوية، والاتحادات الشعبية والنقابات المهنية والعمالية، والأندية والجمعيات وغيرها. قانون التمثيل النسبي هو المدخل الواسع لضمان وحدة الصف على أسس ديمقراطية، سليمة بعيداً عن الصفقات الفوقية، والمناورات الفصائلية والنزاعات التكتلية، هو الذي يضمن تمثيل الجميع، كل حسب نفوذه الشعبي وانحياز الجماهير لسياساته ومواقفه وأدائه وسلوكه.
إننا ندرك، أن الرئيس عباس لم يطلق دعوته إلى الحوار الشامل نزولاً عند وحي ما، بل نتيجة لتطورات محلية وإقليمية ضاغطة. لكننا ندرك في الوقت نفسه أن القوى الديمقراطية وفي مقدمها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين قد لعبت دوراً ملموساً وفاعلاً، في ولادة هذه الدعوة، وشق الطريق أمامها. فمنذ الساعات الأولى لحصول الانقلاب بادرت الجبهة الديمقراطية لتحمل مسؤولياتها، رغم إدراكها لصعوبة الوضع وحساسيته، ورغم إدراكها لمعنى المسؤولية في لحظة بات فيها الحوار يتم بفوهة البندقية وبالمدفع وبالعبوة الناسفة، وبالاتهامات غير المسؤولة القائمة على تعميق الانقسام، وشق وحدة الصف، والتفريق بين أبناء الشعب وأبناء الخندق الواحد.
لقد أطلقت الجبهة الديمقراطية مبادرتها لإنهاء الانقسام واستعادة وحدة الصف الفلسطيني في 4/7/2007، أي بعد أيام قليلة على الحسم العسكري, ثم التقت مع الجبهة الشعبية في مبادرة مشتركة، وبعدها، التقت مع الشعبية والجهاد الإسلامي في مبادرة ثلاثية في شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه. وناضلت مع شركائها إلى أن ولدت المبادرة الموحدة والشاملة في 22/4/2008، وكلها تنطلق من مبدأ إدانة الحسم العسكري والانقسام وتدعو للتراجع عن نتائجه، ووضع آليات لاستعادة الوحدة الداخلية وتطوير النظام السياسي الفلسطيني.
وهذا تأكيد جديد على حرص قوى اليسار، والقوى الديمقراطية على وحدة الصف الفلسطيني، وتأكيد آخر على أن الحوار يجب أن يكون شاملاً يضم الجميع بعيداً عن لغة المحاصصة وسياستها.
دعوة الرئيس عباس بداية لمرحلة جديدة، يفترض أن تبذل كل الجهود لشق الطريق أمامها، مع علمنا بمدى الصعوبات التي ستواجهنا. لكنها مهما بدت متعبة، تظل هي الطريق الصحيح بديلاً للانقسام والاقتتال وسياسات الحروب الأهلية المدمرة.