م. زياد صيدم
طلبوا منه الذهاب برحلة إلى شاطئ البحر لقضاء يوم عطلة.. فقد انهوا عامهم الدراسي وبدئوا إجازتهم الصيفية.. فوافق الأب وأبدى سعادته .. استعدوا قبلها بيوم في تجهيز كل ما يلزم للرحلة ، وقبل منتصف نهار اليوم التالي كانت الأمور على ما يرام .. طلب أبو أحمد السائق الذي تعود أن يقلهم في مثل تلك الرحلات، أو في مناسبات الأفراح فأجابه قائلا: حظك من السماء ..! فقد استبدلت ماتور السيارة إلى نوع يستطيع التحرك بزيت الطبخ بدل الغاز المفقود كالبنزين والمتواجد فقط في السوق السوداء بخمسة أضعاف للتر الواحد ؟..رد أبو أحمد قائلا: يعنى من بنزين إلى غاز إلى زيت طعام وقهقه مردفا حديثه مع السائق يعنى المهم يا أبو أيمن أن السيارة تسير بشكل غير متقطع فأجابه: ربنا يسهلها وعلى بركة الله.. مر وقت قصير، كانت السيارة أمام المنزل في الميعاد المحدد قرابة الحادية عشر ظهرا ، انطلقوا جميعهم إلى البحر فمنذ الصيف الماضي لم يتحسسوا مياهه، ولم يسمعوا هديره، ولم يتذوقوا ذاك الشعور بالراحة أمام هذا الأزرق الفسيح الجميل الذي يسر الناظرين، وهو الذي يقبع على مسافة لا تزيد عن عشرة دقائق من بوابة مسكنهم.
لم ينسى الأطفال إحضار أطباقهم الطائرة ، المصنوعة يدويا من عيدان خشبية وخيطان وأوراق شفافة، وبأنامل غاية في الدقة و بألوان جميلة زاهية ، تعكس ألوان العلم الأربعة وأضافوا الأصفر الفاقع، فأعطى لها رونقا وأصبحت أكثر جمالا وتمازجا في الألوان .. وهنا عادت إليه ذاكرته القريبة عندما كان يصنعها لهم بنفسه قبل بضع سنوات خلت، وتذكر عندما كان يصنعها وقت أن كان صغيرا يلهو منذ زمن بعيد.. أما اليوم فقد كبروا واخذوا الصنعة عنه، بل وسبقوه في الإتقان وكثرة الألوان والأشكال.
وصل الجميع المكان حيث تعودا في كل عام ، واستأجر أبو أحمد عريشه صُنعت قوائمها من الخشب وجوانبها مع سقفها من سعف النخيل، وأمامها وضعت طاولة وكراسي من البلاستيك، يخرج من منتصفها شمسية كبيرة تظلل من أشعة الشمس الحارقة في منتصف النهار.. وما أن حطوا أمتعتهم وأغراضهم حتى انتشر الأطفال في كل اتجاه ، منهم من يلعب على رمال الشاطئ ومنهم من دخل يسبح فورا ،أما سهاد ابنتهم التى لم تتعدى عامها الثاني بعد، فبقيت تلعب بالجوار وبدا عليها الخوف من التقدم نحو انكسار الموج على الشاطئ الرملي، فتسمرت على مقربة من الطاولة تعبث بالرمل ..
لم تمر ساعتين حتى قرروا تناول غذائهم بعد أن أحسوا جميعا بجوع قاتل، والذي كان عبارة عن المقلوبة تلك الأكلة الشعبية المتميزة و الشهيرة بتوابلها ورائحتها الشهية تثير اللعاب وتسر العين، فأبو احمد متذوق أصيل لهذه الأكلة حتى انه كما قيل لي يتفاخر بعملها أحيانا، فهو يُحب هذه الأكلة حد العشق لها!، حتى أن بعض أصدقائه سأله ذات يوم إن كان قد أحب في حياته امرأة، فكان يضحك طويلا قبل أن يجيبهم بنعم .. وبسؤالهم عن اسمها كان يجيبهم بأنها مقلوبة.. فتنفجر قهقهاتهم مدوية مجلجلة.
بعد أن انتهوا من تناول المقلوبة ،حمدوا الله شاكرين له فضله وكرمه ، ثم ما لبثوا أن كروا بعدها إلى مياه البحر يمرحون ويسبحون .. كانت عينه لا تفارقهم فقد كان يعلم حكايات البحر من كبار السن دوما بان البحر غدار لا أمان له ؟؟ بالرغم من عدم استساغته إلى اليوم لهذا القول، لأنه يجد في البحر كل صفات جميلة ورائعة، عكس ما كانوا يصفونه من زوايا نظرتهم المحدودة !. وفجأة صرخت سهاد ابنته التى لم تكمل العامين، قاطعة عليه ذكرياته فهي على مقربة منهم بين الرمال، تلعب فرحة وقد صنع لها بركة ماء استقرت فيها ، و بين الفينة والأخرى كانت تبكى عندما تأتى الرمال إلى عينيها، فيسرع إليها ومعه قنينة ماء عذب ، فهي حبيبة قلبه والمدللة فكما يقولون بأن: آخر العنقود سكر معقود ، فيمسح لها وجهها وعينيها ويعيد حفر تلك البركة الصغيرة وحتى تأتى الموجة لتملأها بالماء ، تعود هي من جديد للعب والجلوس فيها كبحر خاص بها ..
جلس إلى جانبها .. وأشعل سيجارته وفى يده كأس من عصير البرتقال.. أخذ نفسا عميقا وعينيه صوب البحر .. وقد أمعن النظر صوب الأفق البعيد .. فغاب بعيدا معه ولم يعد يرى أحدا في البحر أو على الشاطئ !.. وما أن امتلأت البركة بالماء حتى كانت صورتها تنعكس على سطحها.. لم تكن واضحة المعالم بداية !! نظر ودقق مليا لكي يتعرف على تلك الصورة لمن تكون؟ لم يتبين جيدا ملامحها .. لقد كانت باهتة وضبابية ولكنها بالتأكيد لم تكن صورة طفلته سهاد فقد كانت لامرأة ناضجة، فنظر بكل الاتجاهات لم يجد غير طفلته جانبه ؟.. لقد تأكد له بأنه طيف لامرأة لم يراها في حياته ؟.. ولهذا بدا الطيف غير واضح المعالم ، وسرعان ما بدأ يتضح له بتركيز أكثر وأكثر ليكشف عن وجه صافٍ، نحيف غير ممتلئ ، ناعم لامرأة ناضجة العقل واثقة ،تعتني ببشرتها جيدا وعن عيون ساحرة وشفاه رقيقة .. كان يشعر بوجودها وقربها منه، فدقات قلبه ولهفة عينيه كادت أن تفضحه.. وبحركة لا إرادية بدأ في الجري بكل ما أوتى من سرعة وقوة كأنه في سباق رياضي ، حتى أنهكته قدماه من شدة الألم، فزحف التعب صاعدا إلى كل ساقيه، وكاد قلبه أن يقفز من بين أضلع صدره، حتى تهيأ له بأنها لم تعد تستطيع الصمود من شدة خفقانه .
ولما وصل عائدا إلى حيث انطلق، كانت الشمس قد بدأت في الغطس في مياه البحر، هناك حيث خط الأفق البعيد، وبدا له ذاك المنظر الخالد.. انه وقت الغروب الأخاذ الذي يأسر الروح .. وتهيم به النفوس إلى حيث يتقزم الزمن وتذوب الفوارق.. وتتبادر للذهن الذكريات.. وتتلاشى المسافات .. فتجوب الروح الفضاء لتصل إلى كل مكان وزمان .. وتخرج الأشعار بأجمل الكلمات.. وتُحكى فيه أجمل القصص.. وتُروى أعظم الأساطير عن عرائس البحر وقت الغروب .. ويُغلق بين طيات أمواجه على كثير، كثير من الأسرار .. هناك في أعماق القلوب العاشقة !!.
إلى اللقاء.