بقلم/ د. رفعت سيد أحمد
* وسط رياح الفتن المذهبية والسياسية التي تطل على الأمة كقطع الليل، من العراق إلى لبنان
بقلم/ د. رفعت سيد أحمد
* وسط رياح الفتن المذهبية والسياسية التي تطل على الأمة كقطع الليل، من العراق إلى لبنان مروراً بفلسطين، نحتاج إلى التاريخ وتجاربه الإيجابية كي نستلهم منه إشارات الأمل، وبشائر الحلول لمواجهة تلك الفتن التي تكاد تعصف بوحدة الأمة وعقيدتها، ومن بين أبرز وأهم التجارب الإسلامية التي تصدت للفتنة المذهبية، وهزمتها بالفعل الإيجابي وبالإنجاز الحضاري وبدون دماء كما هو الحال الراهن، تأتى تجربة الدولة الفاطمية التي انطلقت من المغرب العربي واستقرت في مصر واستمر حكمها قرابة الـ 370 عاماً، عاش فيها (الشيعي) مع (السني)، والمسيحي مع المسلم في تناغم في مصر عام (358هــ)، تفاعلت مع مؤثرات ومضامين ثقافة المصريين وقتها، وبنت لهم الأزهر الشريف ليكون منبراً للوحدة، مشاركاً في ذلك مسجد عمرو بن العاص الذي كان مقراً للدعوة السنية وعلمائها الذين تعايشوا مع المذهب الشيعي للحكام الفاطميين دونما صدام أو إراقة دماء.
* * * * * *
في البداية دعونا نشير إلى أننا لا يمكن أن نرصد مؤثراً ثقافياً ما، يتعلق بتكوين المزاج العام والثقافة العامة للشخصية المصرية، دون ربطه بسائر المؤثرات الأخرى، دون استكشاف واستنباط لقوانين الاندماج والتمازج الثقافي المصري، الذي استطاع – عبر التاريخ في هضم وتمثل كل الثقافات الوافدة إليه، وإكسابها لوناً وطعماً ورائحة مصرية، ما جعل الشخصية المصرية وعاء يستقبل كل ما دخل مصر تاريخاً، ليتبقى منه شئ في الشخصية المصرية، والشخصية المصرية على هذا النحو تمتص امتصاصه، وترفض ما لا تريد، بدليل أن مصر تعاقب عليها الفرس، والإغريق، والرومان، والعرب المسلمون، والمماليك، والعثمانيون، والفرنسيون، والإنجليز، ومع ذلك لم يتبق كثير من تراث هذه الفترات في الثقافة والمجتمع المصري، عكس المرحلة الفاطمية التي خلقت شيئا كثير في الوعي والسلوك المصري، والثقافة المصرية، وساهمت بدور كبير في تشكيل العادات والتقاليد المصرية وهو ما دفع الغلاة من المتطرفين الوهابيين القادمين مع هبة النفط إلى تكفير تلك الدولة، وكأنهم يقصدون بالأساس تكفير المصريين وثقافتهم(!!)
* وحسب قوانين التشكيل الثقافي المصري والشخصية المصرية، التي علمناها من كتابات هيرودوت، والتاريخ المصري عموما، فإن الدين يعد رافدا أساسيا في الثقافة المصرية، لذا نجد المعلم الأول (أرسطو) ينصح تلميذه الإسكندر الأكبر حينما جاء ، باحترام معبودات المصريين وتقاليدهم الدينية.عبر عبادة آمون، واستغلال مكانته الدينية لدى المصريين. وبعد قرون طوال جاء نابليون يكرر الشيء نفسه، ويحاول التقرب للمصريين بالدين، من خلال المشاركة في العادات والاحتفالات الدينية المصرية (كالمولد النبوي مثلاً).
* * * * * *
أما بخصوص الدولة الفاطمية، التي ندعو إلى تمثل القيم الإيجابية إبان حكمها لمصر فإن المؤرخين الثقاة يرون أن المصريين هم الذين أضافوا للثقافة الفاطمية، أي أن العادات التي أكتسبها الفاطميون في سياق الثقافة المصرية، هي التي جعلت هذه المفردات الثقافية باقية، بدليل أن الفاطميين وجدوا في أماكن وأقطار أخرى (في شمال أفريقيا وشرق الحجاز) ومع ذلك لم تتأثر الأقطار بالمفردات والعناصر الثقافية الفاطمية كما تأثر المصريون، ولعل ذلك يعود للتربة الثقافية المصرية التي كانت مؤهلة تماماً لتلك المفردات، التي استدعت مكونات ثقافية مصرية تعود للمصريين القدماء، مثل فكرة “الاحتفاء بالموتى”، المتجذرة في الثقافة المصرية القديمة ، حتى تحولت المقابر في المجتمع المصري القديم، إلى ساحات للاحتفال والرقص والغناء وتناول الطعام، وما زالت عادة الاحتفال وتناول الطعام في المقابر لليوم (والأضرحة خصوصا) لا زالت قائمة ومستمرة وبالمقابل لم تنجح الأفكار غير المتماشية مع الثقافة المصرية مثل شدة الحزن على الإمام الحسين الموجودة في تراث غالبية الشيعة (ومنهم الفاطميون) حيث هو رمز للاستشهاد والنصيحة بالنفس، وأرتبط ذلك لدى الشيعة بمشاعر الإحساس بالذنب والتقصير عن نصرة الحسين، والحزن والبكاء والعويل ولطم الخدود، على الشهيد العظيم، وتجذر ذلك في التراث الشيعي، عامة، لكن الفاطميين لم يستطيعوا غرس تلك الثقافة الكربلائية في مصر، بل تحول الأمر إلى احتفال مبهج وفرح (بالميلاد لا بالوفاة) وهذا تم تعميمه على كل آل البيت في مصر، حيث الاحتفال بموالدهم مصحوبا بالبهجة وطقوس فرح، مثل إقامة الولائم والغناء، تلك هي الروح المصرية التي صبغت مفردات الثقافة الفاطمية، وجعلت لها صفة الديمومة والخلود، وهاتان الصفتان هما المعول عليه في بناء ما سمى ب”الحكمة الشعبية” أو “الثقافة الشعبية” (أو الفلكلور)، لأن شرط إنتاج الثقافة الشعبية هو توفر صفتي التراثية والتداول، ما يوفر الاستمرار لتلك الثقافة.
ومن ثم كما يؤكد المؤرخون أن الفاطمية بسعة أفق قادتها وعلمائها استوعبت جوهر الثقافة المصرية، أضافت إليه وتفاعلت معه ولم تخترقه كما تفعل الأفكار السلفية الوهابية النفطية الآن (أنظر إلى النقاب والجلباب الباكستاني وانتشارهما الغريب!!)، لقد وعت التجربة الفاطمية جيداً قانوناً مهماً وهو الاختراق للثقافة المصرية، مستحيل والمحاولات السياسية القادمة من الشرق أو الغرب، لاستيعاب العادات المصرية القديمة، أو امتصاصها، أو تفكيكها، أو اختراقها، كلها تبوء بالخسران، وهاهم المصريون بعد قرابة قرن من محاولات الاختراق الوهابي، ما زالوا يمارسون عاداتهم (مثل الموالد) وها هي الطرق الصوفية تضم قرابة 14 مليون مصري من جملة المصريين، وما زال المصريون يحتفلون بالمولد النبوي وشم النسيم، رغم فتاوى التحريم، ما زال الشعب المصري سادر في الاحتفال بطقوسه وعاداته، لأصالتها، أولا، في تشكيل وعيه ووجدانه التاريخي، باعتبارها تمثل قانونيا للحياة ولحيوية الشخصية المصرية، وقدرتها على مقاومة الثقافة الوافدة، والمقاومة تكون بالاستيعاب أو التمثل والامتصاص (إذا كانت ثقافة إيجابية). أو بالرفض الصارم (إن كانت سلبية)، ومن ثم لم تستطيع الوهابية، ولا غيرها، اختراق جدار الثقافة المصرية. ومن هنا نشأ العداء المتجذر بين تلك الدولة الخليجية التي تصدر أفكار الغلو والتطرف والغلظة البعيدة من روح الإسلام وبين مصر خلال الخمسين عاما الماضية وان ادعى حكام كلتا الدولتين غير ذلك، في المقابل القيمة الرئيسية التي غرستها الفاطمية في مصر، في كونها مشروع تاريخي (أو جزء من مشروع تاريخي للأمة) كرست ما يمكن أن نسميه “فقه المحبة” أو “فقه البهجة”، والذي أعطى بعداً عميقاً للإنسان الفرد، والإنسان في صياغاته الجماعية، وهذا البعد لا يمكن للدولة الفاطمية (أو غيرها) تحقيقه بالاستبداد أو بالقوة أو القهر، كما ردد البعض في تزييف واضح لتاريخ الفاطميين، لأنه لو تحقق هذا البعد بالقهر، لاختفت المظاهر الفاطمية من الثقافة المصرية، بمجرد اختفاء الحكام الفاطميين، ولكن هذه العادات بقيت لأنها توافقت وانسجمت وامتزجت بالروح المصرية القديمة، الحقيقية والتاريخية.
* * * * * *
ومن القضايا التاريخية المهمة المرتبطة بالفاطمية والتي ينبغي الإشارة إليها ونقدها هو ما يقال سلباً عن دور صلاح الدين في نقض تراث الدولة الفاطمية في مصر، وإلى عدائه للمذهب الشيعي في مصر، وأقول إن كثيرا من الباحثين قد أشاروا إلى أن الدولة الفاطمية لم تعلن التشيع الإسماعيلي مذهباً رسمياً للدولة، ومن المهم إبراز حقيقة أن بعض المؤرخين لم يكونوا محايدين تجاه صلاح الدين، بل تحاملوا عليها فيما قالوه عن حرقه للمكتبة الفاطمية، وهدمه للخلافة الفاطمية، وما قيل عن اضطهاده للشيعة، وهنا أتوقف عند مقولة صلاح الدين الأيوبي في عِز انتصاره على الصليبيين، وفى وسط جنوده: “إننا نصرنا بالقاضي الفاضل، ودعوات الزوايا والتكايا في مصر”، أي أن هذا القائد المهم الذي اتخذ كل الأسباب الموضوعية والعلمية للانتصار، قد عبر عن الانتصار بمقولة تتسق مع الروح المصرية السادرة في تاريخيتها، والمتجذرة في وعيها، بأن النصر جاء بتأثير القاضي في الناس، وتحريضه لهم على الجهاد، وبدعوات المؤمنين والفقراء في الزوايا والأسبلة والتكايا والتي هي منشآت فاطمية بالأساس، الذين كانوا سنداً لصلاح الدين في جهاده، وداعمين للروح المصرية المجاهدة.
* هذه تفاصيل يمر عليها المؤرخون مرور الكرام، لكننا بمنهج الجبرتي في التاريخ، إن استطعنا ملاحظة هذه التفاصيل الصغيرة، وتركيز الضوء عليها، لاستطعنا قراءة القانون الرئيسي للحراك الثقافي المصري، الذي يؤثر في الوافدين ربما بأكثر مما يتأثر بهم الآخرين.
* وهنا نشير إلى الحكم العثماني لمصر، الذي زاد في فترته عن الحكم الفاطمي لمصر، ونسأل: أين المؤثرات التركية في التاريخ المصري؟ دعونا نتحدث عن المؤثرات التركية في مجمل الثقافة المصرية، وسنجد أنها مؤثرات رفضها المصريون رفضاً حاسماً، لأنهم شعروا من اللحظة الأولى بالتعالي التركي والتميز عن الثقافة المصرية، وهو ما يؤكد أن الأتراك لم يقرءوا الثقافة المصرية ولا تاريخ المصريين، ولعل هذا ما كان يدفع قاداً تاريخياً مثل جمال عبد الناصر، في أثناء مفاوضته السياسية مع بعض الأتراك أن يغلق ملف المفاوضات، ويقول للمفاوض التركي: “أذهب فاقرأ تاريخ مصر”، لأن من يقرأ تاريخ مصر، يستطيع التعامل مع الشعب المصري، ويعطيه الشعب المصري الكثير.
* * * * * *
* إذن عند حديثنا عن التجربة الفاطمية المتسامحة فإننا نتحدث عن فترة زاهية في تاريخ مصر، على الأقل في المجال الثقافي، حيث تقدمت الآداب والفنون والكتابات في مختلف العلوم والفنون، واستطاع الفاطميون التناغم مع رؤية المصريين للدين، كأسلوب حياة بعيداً عن التعقيد والتجهم والتشدد كما يفعل غلاة السلفيين النفطيين، وجعل الطقوس والشعائر تميل إلى الفرح والابتهاج، كما نجحت مصر في الامتزاج والانسجام مع المفردات والعناصر التي مثلتها الدولة الفاطمية في مصر.
* بقى أن نشير إلى المنهج الأمثل في استلهام ذلك التراث في واقعنا المعاصر، وقضايانا الراهنة، وهنا ينبغي أن نؤكد منذ البداية على أنه ينبغي ألا نتورط في معارك يفرضها جهلة وذوو غرض، مثل معركة التكفير للدولة الفاطمية التي أطلقها شيخ جاهل ومتطرف يخدم غرض سياسي لدولته (!!)، والأولى الالتفات لفكرة إعادة قراءة التاريخ كإطار عام يتشكل من عدة عناصر، وعلى رأسها العناصر التي شكلتها الدولة الفاطمية في مصر، ومن حيث الرؤية السياسية، فإننا في هذه المرحلة التي نعانى فيها تشظيا ً وتفكيكاً وطائفية بغيضة تفرضها قوانين الهيمنة الاستعمارية الراهنة، واستجابت لها، لابد من التعاطي مع قضايانا بروح التسامح واستلهام الدروس، وحينما نتناول الدولة الفاطمية تبرز وبقوة فكرة اللامذهبية، وأن الدين فوق المذهب، وأنه حينما نتحدث عن التقريب بين المذاهب، فإننا نعنى وحدة المسلمين في الوطن أو العروبة، وبهذا نستطيع مواجهة الأفكار التكفيرية الوافدة، كما ينبغي التعامل معها بالاستهانة التي تستحقها، وبالالتفات إلى جدول أعمالنا كمثقفين، وهو متخم بالقضايا والهموم، ونختم هنا بالمقولة الرائعة للعالم الإسلامي الراحل الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله) صاحب مصطلح (فقه البداوة) الذي رد فيه بقوة على رؤى وأفكار المتشددين السلفيين قال عبارة مهمة استطاع فيها أن يحسم بذكاء الجدل الدائر حول الهوية، بين الداعين للمصرية، ودعاة العروبة، ودعاة الأمة الإسلامية فقال في بلاغة: “أنا مصري عربني الإسلام، جامعا الدوائر الثلاث في بلاغه نحسب أن التجربة الفاطمية قد حسمتها بحق، ونعتقد بأهمية أن نستعيدها الآن وبقوة.
والله أعلم،،،
E-mail: [email protected]