الشاعر السوداني/ حسن إبراهيم حسن الأفندي
كانت العرب تعتقد قديما وما زال يروى عنهم ـ وأنا شبل من ذلك الأسد ـ أن لكل شاعر شيطانه الذى يلهمه بما يقول وينظم ودونما جهد وعناء أحيانا , حتى أنه ليستغرب من نفسه أحيانا , ويتساءل : كيف كتب ذلك الشعر ومن أين استوحى معانيه ؟ وربما يعجب الشاعر بنفسه ويعتد بما يكتب ويتراقص فرحا أحيانا وطربا أحيانا أخرى , ولابد أن أقرر هنا أن الشعراء وإن كبروا عمرا ومنزلة وقدرا ومكانة ودرجة , فهم ليسوا إلا مجرد أطفال صغار , كلمة ترضيهم وأخرى تحولهم إلى الإتجاه المعاكس تماما .
فمن قائل إن لافظ بن لاحظ كان ملهم امرئ القيس , وإن سحل بن أثاثة ملهم زهير ابن أبى سلمى وإن هاذر ملهم النابغة الذبيانى , وهكذا جعلوا لكل شاعر شيطان شعره الذى يلهمه وأن تلك الشياطين تسكن أو تأتى من وادى يعرف بعبقر , ولعل عبقر نفسها أخذت اشتقاقا من العبقرية التى يتميز بها الشعر ويحفل , ومن ينكر العبقرية العربية فى نظم الشعر الذى يعتبر أجود وأحلى ما يكتب الشعراء إذا ما قورن بما يكتبه رصفاؤهم من أمم أخرى غير عربية , يتسم الشعر العربي بالجرْس الموسيقى وبالقافية التى أخذتها منا الشعوب والأمم الأخرى , وإنى لأطرب كثيرا عندما أقرأ بيتا للعقاد يقول :
أيذوى الصبا منا لأن منعما = من الناس بسام الثغير غرير
بلا تحيز , لغتنا شاعرية فعلا وذات موسيقى ذاتية تحملها بين ثناياها فتطيب لها النفس وتطرب وتتحرك لها المشاعر , بينما أقرأ لشكسبير مثلا نفس المعنى فلا أطرب , خصوصا وأن لغته قديمة ولا أجد فيها ما يجعلنى متفاعلا بنفس الدرجة والحماس لبيت العقاد :
Shall I Wasting in despaire
Die , because a woman is fair?
ولعلنى لا أجد من هو أشعر من زهير بن أبى سلمى فى معلقته الرائعة التى ضمنت الحكمة وجميل الرأي وسديد المعنى وجديده وعلما فريدا متفردا خصوصا لرجل عاش فى زمن يعرف بالعصر الجاهلي , والجهل بهذه المناسبة لا يعنى الأمية وعدم المعرفة وإنما يعنى الحماقة والسفاهة والطيش , ترى ماذا كان يقول لو تأخر زمنه وعاش فى عصرنا هذا ؟استغرب كثيرا لمعنى بيته الذى يقول :
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده=فلم يبق إلا صورة اللحم والدم !!!!
وذلك من المؤكد يتأتى عن فهم حقيقة الجسم الطينى البالى الذى يحوينا بشرا , وتعجب وأنت تطالع فهمه للغيب وما يجرى فيه وعدم قدرتنا كمحدودي عقول وعلم ومعرفة وقدرة للتكهن بالغيب :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله=ولكننى عن علم ما فى غدٍ عمِ
بل ودعا إلى السلم ونبذ العنف والحرب فى ذلك الزمان السحيق , بوعي وإدراك عجيبين مما يجعلنى أعتقد ـ والله أعلم حيث يجعل رسالاته ـ أن ذلك كله كان بتقدير إلهي تهيئة لهذه الأمة لتحمل رسالة السماء :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ=وما هــــو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمــــة=فتضرى إذا ضريتموها فتضرم
تحرق الأخضر واليابس , وبمناسبة الرسالة التى أعد الله لها هذه الأمة لاستقبالها , فإنى أعتقد جادا أن عبد المطلب ـ جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لم ينطق بعبارته الشهيرة : للكعبة رب يحميها يا إبرهة , إلا بتوفيق وإلهام من الله يرفع بها ذكر عبد المطلب وبالتالى فيها رفع لذكر حفيده الرسول الأعظم , سليل أماجد من أماجد ومن كابر عظيم القدر لكابر رفيع الذكر والشأو والشأن.
وما زلت وأزال أتساءل بزهو واعتداد وتعجب : كيف تسنى للبيد أن يقول وهو يرثى أخاه إربد فى قصيدته الشهيرة :
بلـينا ومـا تبـــلى النجوم الطوالع=وتبقى الجبال بعــدنا والمصانع
وما المال والأهـلـــون إلا ودائع=ولابد يـــــوما أن تــرد الودائع
لعمرك ما يدرى المسافر هل له=نجاح ولا يدرى متى هو راجع
إلى أن يصل إلى بيته العجيب حقا والذى أثبت العلم الحديث صدقه :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه=يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
فقد قيل إن الأرض خلقت لا تحتوى على عنصر الحديد وإنما يأتيها من الشهب التى تحترق وتبلى فى هذا الفضاء الرحب , ومن لطف الله أنها تتساقط على المناطق غير المأهولة على الكرة الأرضية !
وإذا اردنا متابعة مثل هذه الخواطر التى تترى علينا دون أن نرمى إليها وأن ننساق وراءها , فلن نصل إلى حد ولا نهاية , فالجعبة ملأى , فقط علينا الإيمان بالذات وبأننا أصحاب إرث عظيم وعقول نافذة وقادة يمكن أن تعود إلى السطح متى ما وجدت المناخ الملائم والإيمان بالذات.
سألنى أحد المتواصلين عبر الإنترنت , بل عدد كبير منهم , أننى أظهر لمحدثى تحت مسمى : جريض الإلهام , جد رهام ووئام , فأجبت أن السجع أملته الضرورة ورهام ووئام حفيدتان لى , ولكن السؤال يكمن فى جريض الإلهام , والجريض هو الهم والغصص , أخذتها عن عبيد بن الأبرص الذى قابل الملك المنذربن ماء السماء فى يوم نحسه , فقد كان للمنذر يومان : يوم سعد ويوم نحس , فإذا لقيه أحدهم يوم سعد , نال ما نال من العطاء والمآرب وسعد العيش ورغده , ولكن متى لقيه آخر يوم نحسه ففى الغالب أنه ميت على يدي المنذر ولا محالة , لقيه عبيد فى يوم نحسه وعلم النعمان بأنه عبيد الشاعر المعروف أو الذى أصبح شاعرا معروفا فجر شاعريته موقف معروف لأهل المطالعة والعلم بسير وأخبار العرب والشعراء , فسأله المنذر أن ينشده شعرا, فأجاب عبيد وكان خائفا مرتجفا وظن انه حانت منتيه : حال الجريض دون القريض! فأصبحت مثلا . وحتى لا أثير فضول القارئ ولا حيرته , فالمنذر قتل عبيدا.
وقد تعرضت فى إحدى مقالاتى عن المقولة الشهيرة المأثورة عن الشنفرى : إنما النشيد على المسرة , وصدق والله , ولكنى أجد نفسى تحت وطأة رغبة ملحة فى أن أصحح مفهوما متداولا , فالبردة كما هو معروف لكعب بن زهير بن أبى سلمى , جاء بها تائبا مستجديا السماح من رسول الله (ص) عندما وصله أخوه بجير إلى أرض اليمن وأخبره بأن الرسول (ص) أهدر دمه لما صدر من هجائه للرسول الكريم , خلع الرسول الكريم برده مكافأة لكعب بن زهير , فسميت القصيدة بالبردة أو هكذا عرفت :
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول = متيم إثرها لم يفد مكبول
وفيها البيت الشهير :
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته=يوما على آلة حدباء محمول
ومرض الشيخ البوصيري فأنشأ قصيدته :
أمن تذكر جـــــيران بذى سلم =مزجت دمعـــا جرى من مقـــــلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة = أم أومض البرق فى الظلماء من إضم
فما لعـــينيك إن قلت اكففا همتا =ومـا لقلـــبـك إن قلــت اسـتفــق يهــم
وقيل كان مصابا بالشلل فعوفي , وجاراها شوقى برائعته :
ريم على القاع بين البان والعلم=أحل سفك دمى فى الأشهر الحرم
وسميت قصية شوقى بنهج البردة , وهـذا يعـنى أن قصيدة الإمام البوصيري هى الـبردة , ولنقـل البردة الثانية لأن الأولى لكعب , فمن أين جاءت البردة لقصيدة البوصيري التى كانت له برأة مرضه , فمسماها الصحيح البرأة لا البردة وإن ذهب البعض إلى أن يبرر هذه التسمية بمبررات ربما تكون صادقة , ولكنها على كل حال برأة لما كان فيه من مرض .
وأعود إلى شياطين الشعـر , وأكاد أجزم أن شيطان شعرى امرأة , تلك التى حكيت عنها مرة وقابلتنى فى ليلة مظلمة حالكة السواد عام 1956 وأنا بالرابع الابتدائى وكنت عائدا لمنزلنا بتلك القرية الهادئة النائمة فى شمال السودان من مذاكرة مع زميل لنا, شممت منها رائحة كريهة كما قلت أصبحت بعدها ممعودا حتى أواسط التسعينيات ومنذ ذلك التاريخ البعيد , ولعلى أجزم من منطلق خوفى وقلقى الدائم المستمر والذى أخاف أحيانا أن يكون جبنا والعياذ بالله , أكره العنف والمصادمات وحتى الصوت العالى , وأجزع لكبش يذبح , أكره الهجاء إلا مزاحا , ولا أشط فيه أبدا , وللعلم فإن لى بيتا من الشعر ورد بقصيدتى ( حراسة الرمة ) أقول فيه :
فقولى كله شعـر وغـيرى=من الشعـراء مفضوح بذكـرى
سمعه منى أديب شاعر صحفي تونسي ظريف وصديق من توزر , بلد أبى القاسم الشابى , فحرّف فى شطره الثانى تحريفا مخلا بالمعنى ولا يمكن أن ألجأ إليه , وتلك حقيقة أقررها هنا حتى إن وصل البيت محرفا لأحد عنى فينبغى ألا يصدقه , فهو على ما ذكرت وأوردت بعاليه فقط لا غير .
عزيزى القارئ , أكره أن أكون جبانا إلا بالحق وفى الحق , ولكننا نضطر مكرهين أحيانا كثيرة إلى أن نحنى رؤوسنا للعاصفة , دبلوماسية كما يقولون أو تكتيك مرحلى, أو قل ما تقول ولكن ذلك هو واقعى وواقع أمة بحالها :
رب بسم بسمته وهو منى=حيلة الموجع الحشا المغلوب
ولو أن القلوب تنشق يوما=لرأيت القلوب غير القلــــوب
و أتمنى أن لا يكون ذلك فيما يغضب الله ورسوله …. فى غير نفاق ولا ختل …. ولكن لتكتيك مرحلى فقط , وليس على المضطر أو المكره حرج وقلبه عامر بالإيمان.
علم الله ما جلست للكتابة إلا لأوفي والدى يرحمه الله شيئا من المشاعر وشيئا من إحياء ذكراه , فقد رحل عنا فى يوم الاثنين الموافق الخامس عشر من سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف , أي قبل ثمان وأربعين سنة وما زالت ذكراه خالدة فى قلبى ونفسى رغم مرور عقود من السنوات , فقد رحل عنا وكنت ما أزال طالبا بالصف الثانى الإعدادى , وقد ربطت تاريخ نشر هذا الموضوع بذكرى رحيله , فأردت أن أتحدث عنه قليلا وأن أترحم عليه كثيرا ولكن …. زحمتنى أفكار أخرى طغت على كتابتى , فلك منى يا أبى عذرى ونم مرتاح البال فى جنات النعيم , ولعلك تدرك أنى أصبحت على مرمى حجر من الموت , فإلى لقاء قريب .