يتعرّض المجتمع الأردني اليوم لتحدٍّ وجودي أوجزه في الآتي: 1ــ التناقض التناحري بين الليبرالية الجديدة وتاريخ هذا المجتمع وتركيبته وشخصيته. 2ــ تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، عبر التوطين السياسي القائم والقادم. وهذان العاملان مترابطان بصورة درامية، بحيث ينظر الأردني إلى عمليات الخصخصة والبيوعات وتفكيك بنى الدولة ليس فقط من زاوية اجتماعية، ولكن من زاوية وطنية.
وإذا كان الصراع الاجتماعي ـ الوطني في الأردن لا يبدو للمراقب الخارجي أساسياً، لأنه غير عنيف، فإنه يؤذن في الواقع الحيّ بتغييرات استراتيجية سوف تكون لها تداعيات إقليمية لا يمكن توقُّع نتائجها في بلد يجاور الكيان الإسرائيلي والسعودية والعراق وسوريا في آن واحد.
المجتمع الأردني ليس عنيفاً. بالأحرى هو مجتمع مسالم لكنه مصمّم، وليس براغماتياً لكنه «عملي» وواقعي إلى حدّ مزعج، إنما ليست لديه سكينة المصريين إلى كيان راسخ يجعل الانتظار آمناً.
وميزة المجتمع الأردني أنه صبور، ذلك الصبر الاستراتيجي مع مزيج من السخرية والثقة المفرطة بالنفس. وهو غالباً ما يظهر على شكل تهذيب وتواضع يخفيان الاستعلاء، ليس استعلاء القوي بل استعلاء الساخر الوجودي.
عاش الأردنيون على حدّ الصحراء، ليسوا منها لكنهم ليسوا من الشام. هضبة بينهما تحدّها الإمبراطوريات، إنّما بسبب كلفتها الباهظة وحجمها الجغرافي الكبير بالنسبة إلى حجمها الاقتصادي الصغير، لا تريدها ولا تستغني عنها على سيف الغزاة الصحراويّين. وهو ما أعطى الأردنيّين عبر التاريخ، للمفارقة، أهمية سياسية مضاعفة، وثقفهم دائماً بالانتماء حدّ الذوبان في دولة محلية هي التي، في ضرورتها تَميزهم، وفي صيرورتها وجودهم.
سوف ينبري لي هنا مستشرقو الثقافة للبحث في شكل الدولة وفقاً للنظريات الغربية، الليبرالية أو الماركسية، لكي يدحضوا هذه الأطروحة. لكن ما الذي يمنع التفكير في أنموذج المجتمع ـ الدولة، المتّحد الفلاحي ـ البدوي، أي الزراعي ـ المقاتل. أليست هذه التركيبة أيضاً هي، بمعنى خاص «دولة»، عرفنا أعلى تجلياتها المحلية الممتدة خارجياً في دولة الأنباط، وصولاً إلى أدنى أشكال الدولة المنكفئة على الذات في «حلف البلقاء» في القرن الثامن عشر ـ التاسع عشر.
وقد كان الصراع السياسي الأردني في القرن العشرين بين مدرستين، أولاهما ترى المملكة الأردنية استعادة لمملكة الأنباط، قوة ومكانة ودوراً، والثانية ترى فيها استعادة للحكومات المحلية في المحافظات. وقد ظلّ الصراع هنا ممكناً داخل الوحدة ـ الدولة. لكن المدرسة الثالثة، الليبرالية القائمة على نفي الدولة ـ الوحدة تجابه صراع وجود مع المجتمع الأردني.
المملكة الأردنية الهاشمية نشأت من المحافظات ـ الدويلات المحلية الثلاث التي كانت لها وظائفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتقاربة (الكرك والسلط وعجلون).
وقد صمّم الأردنيون ونفّذوا مشروع دولتهم الحديثة، على رغم أنف سلسلة من الظروف المضادة العنيفة، وبالحدّ الأدنى من الموارد تقريباً. لم تنشأ الدولة الأردنية على بئر نفط وشركة وعلم، ولا من وطنية مفرطة، ولا من حجم أو فائض، بل كسلوك طبيعي مصدره الإحساس بالضرورة التاريخية، وبأن المهمة يمكن اجتراحها كما حصل في الماضي.
الوطن ليس جغرافيا سياسية ومقوّمات فقط، بل إنه، أساساً، فكرة وإرادة. وقد كانت هذه الفكرة مختمرة في عقل النخبة الأردنية، وخصوصاً تلك الأكثر تطوراً في شمال البلاد.
ففي لقاء تاريخي للوطنيين الأردنيين في «مؤتمر أم قيس» عام 1920، أي قبل مجيء الشريف عبد الله إلى البلاد، أقرّ المؤتمر إنشاء «حكومة عربية وطنية مستقلة مركّبة من لواءي الكرك والسلط وقضاءي عجلون وجرش» (أراضي الأردن الحالي)، والطلب «بشدّة وإلحاح بضمّ لواء حوران وقضاء القنيطرة إلى هذه الحكومة»، والتمنّي أن يتبعها «قضاء مرجعيون وصور».
والطلب بضمّ حوران والجولان يرجع إلى التماثل الاجتماعي والسياسي والثقافي بين هاتين المنطقتين وبين المناطق الأردنية. وسوف يدهش القارئ إذا علم بأن ممثلي حوران والجولان كانوا من المشاركين في «مؤتمر أم قيس»، وكان لدى الجميع تصوّر موحّد للحدود الاجتماعية ـ السياسية للدولة المحلية، هو بالمناسبة متطابق مع الدولة النبطية، ومع دولة الغساسنة ومع التقسيمات السياسية العثمانية. أمّا التمنّي، فيتعلّق بضمّ منطقتين هما مرجعيون وصور المحاذيتين، والهدف منه هو الوصول إلى البحر المتوسط.
ونلاحظ أنه من أبرز مقرّرات مؤتمر أم قيس:
1ــ «أن يكون لهذه الحكومة مجلس عام لوحدة البلاد وسن القوانين وإدارة الشؤون الداخلية وتنظيم الميزانية». وهو تصور ديموقراطي مجتمعي يستند إلى الخبرة المحلية في تنظيم إدارة لا تفصل بين التشريع والتنفيذ، ما كان عدّه لينين أساساً من أسس الديموقراطية الشعبية.
2ــ «أن لا تكون لهذه الحكومة أدنى علاقة بحكومة فلسطين». و«أن تمنع المهاجرة الصهيونية بتاتاً إلى داخلية هذه الحكومة، ويمنع بيع الأراضي لهم»، و«أن تكون حدود المنطقة غرباً نهر الشريعة (الأردن)». وكلها تأكيدات مصدرها القلق من مدّ وعد بلفور ليشمل الأردن.
3ــ «الحكومة الوطنية هي التي لها الحق وحدها بتجريد السلاح أو بقائه بأيدي الآهلين»، وهو شرط موجه إلى الانتداب البريطاني يعكس فكرة مجتمع الفلاحين ـ البدو، المزارعين ـ المقاتلين.
4ــ «اتخاذ العلم السوري ذي النجمة» علماً للبلاد. فنجمة العلم الأردني تقرّرت في «أم قيس» لا في لندن أو مكان آخر، كما يدعي باحثون عرب من المدرسة الاستشراقية.
إنّه لممّا يدهش المرء كيف استطاع مجتمع صغير شبه صحراوي أن ينتج في فترة قياسية في العشرينات نخبة دولتية في مجال العسكر والسياسة والإدارة والتربية والمهن، كانت في النصف الأول من القرن العشرين تنافس النخب المماثلة في الدول العربية الكبرى الأخرى. ولذلك مثّلت الدولة الأردنية محور تحدٍّ للنخب العربية على اختلاف أطيافها وتياراتها، وأدّى ذلك إلى سوء الفهم أو التجاهل أو إصدار حكم قطعي غير قابل للاستئناف بأن الأردن «كيان مصطنع». ومن الطبيعي أن تنظر نخب المجتمعات الأكبر والأكثر تطوراً إلى إلحاح هذا المتّحد من العشائر نصف البدوية ـ نصف الفلاحية، على بناء دولة حديثة وقوية ومستقرة وفاعلة، باعتباره «نبتاً شيطانياً»، وغير ممكن التصوّر إلا كمؤامرة. وهي نظرة استوردها بعض القوميّين المتمركسين من الأردنيّين، باعتبارها أيديولوجية «معارضة»، لكنها لخيبتهم تصطدم بواقع الدولة، وصلابة المجتمع الأردني، فلا تدخل وعيه.
الأردنيّون أهل مجتمع ـ دولة. ولذلك فهم ينظرون، بغض النظر عن ميولهم السياسية، إلى الخصخصة بريبة، وإلى الثراء باستهزاء مشوب بنظرة الاتهام، وإلى الوظيفة السياسية باحترام. إنّه لمن المستحيل تغيير المجتمع الأردني إلى الأنموذج الليبرالي، استحالة تركيبية. إنّ الإلحاح على لبرلة المجتمع الأردني لن تنجح أبداً. وقد يتم فرض هذا الأنموذج بقوة الإدارة والعنف، لكنه لن يكون عندئذ مجتمعاً أردنياً، ليس فقط ثقافة ووجداناً، وإنما هوية ووجود، ما يجعل اللبرلة مرتبطة عضوياً بالصهينة. أعني أن هنالك معادلة صدام لا تعرف التسوية بين بقاء الأردن نفسه وبين بقاء النهج الليبرالي. والمجتمع الأردني يصبر على ـ ولا يقبل ـ الأنموذج الليبرالي، خوفاً منه على الدولة، في هذه اللحظة الصعبة. لكنه يعامل الأزمة كلها بمزيج من السخرية والنحت. فأصحاب الثقافة المرتبطة بالحجر، كما هم الأردنيون دهاة في النحت، وينظرون إلى القدرة على تفكيك وتشكيل الصخور بثقة، فما بالك بالحجارة التي يجرفها الوادي في طريقه؟ إنما، في لحظة ما من الخطر المحدق، قد يكون السلاح هو الفيصل، وقد تكون الثورة، لا الصبر الاستراتيجي والنحت السياسي، هي البديل الوحيد.
* كاتب وصحافي أردني