ما بين عناوين اتّفاق الدّوحة وبين ترجمته على أرض الواقع تبقى هناك ثغرات واضحة في التّطبيق، فبعد أن أجمع الأقطاب كافّة على أنّ هذا الإتّفاق ليس بمثابة هدنة بل يشكّل أرضيّة صلبة يمكن الإنطلاق منها نحو المصالحة والتّفاهم والتّوافق، إلاّ أنّ المجهود المبذول (من أجل تنفيس الإحتقان الشّعبي وتخفيف تداعيات التّصعيد العسكري الأخير في بيروت والجبل) يكاد يكون معدوماً، وهو يفترض أن يتمثّل بالوقف الفوري للأعمال الإستفزازيّة وانسحاب المسلّحين من الشّوارع وإزالة الصور والأعلام الحزبيّة التي تمّ تعليقها خلال المواجهات في العديد من شوارع وأحياء بيروت، ويترافق مع ذلك القيام على المستويين السياسي والإجتماعي بكلّ ما من شأنه تهدئة النّفوس ونزع فتيل الفتنة المذهبيّة التي أصابت مقتلاً في التّرابط السنّي الشّيعي.
ولكن ما يجري على الأرض هو غير ذلك، فالمظاهر المسلّحة لا تزال موجودة (وإن بوتيرة أقلّ)، وتنامي ظاهرة إنشاء بعض زعران الميليشيات لمراكز مستحدثة في محلاّت أو شقق أو مباني قيد الإنشاء أو مهجورة تمّ احتلالها مؤخّراً في مناطق عديدة من بيروت لوجود مالكيها أو شاغليها في الخارج ….. فعادت بنا الذّاكرة إلى الحقبة السوداء من تاريخ لبنان … حقبة العصابات والخوّات والإرهاب والتّرهيب والزّعرنة، ….. وكأنّ هؤلاء الشباب الرّاسبين في العلم والفاشلين في الحياة قد اعتمرتهم الفرحة الكبرى بسبب اقتراب البلد من حافّة الحرب الأهليّة والفوضى الشاملة ولم يصدّقوا أن الفرصة أتيحت لكي يحملوا السّلاح ويتزعرنوا ويعيثوا في الأرض فساداً كما عاث أباؤهم في الماضي، فشرعوا في العمل على محاولة إعادة إنتاج المظاهر الميليشياويّة الفوضويّة التي كادت في الماضي أن تكفّر الشّعب في الوطنيّة والقوميّة والعروبة، فمثل هؤلاء الحثالة ترى في الفوضى والخراب والدّمار فرصة ثمينة لبلوغ وتحصيل ما عجزوا عن بلوغه وتحصيله بكرامة وشرف وكفاءة إنسانيّة وأخلاقيّة.
للأسف لم تقدم مراجعهم السياسيّة على أيّ خطوات وقائيّة أو تصحيحيّة جدّيّة لإزالة هذه المظاهر، بل اكتفت بالدّعوة الكلاميّة عبر الإعلام إلى التّهدئة وتنفيس الإحتقان …. وأبقت على هؤلاء الزّعران وعلى تجمّعاتهم ومراكزهم الظاهرة بوضوح للعيّان في خطوة أقلّ ما يقال فيها أنّها …. قمّة الإستفزاز ومعمل الإحتقان.
في سياق آخر، قبل يومين قام بعض من ميليشيات حزب نصرالله بتوقيف مراسلي الشبكة اللبنانيّة للإرسال على خلفيّة وضعهم تقرير وإلتقاطهم صور لأحد مراكز تيّار المستقبل في عرمون والذي كان قد احترق في المواجهات الأخيرة، فعمدوا إلى مصادرة الفيلم والطّلب من الفريق الصحفي مغادرة المكان، فبادر هؤلاء إلى الإتّصال بأحد مسؤولي الحزب والذي طلب بدوره من عناصر ميليشيا الحزب أن يتركوا الصحافيّين وشأنهم وأن يعيدوا لهم الفيلم في حال لم يتضمّن ما من شأنه أن يسبّب تهديداً لأمن الحزب، فتمّ التّأكّد من الفيلم وأعيد إلى أصحابه وغادر الميليشياويّين المكان.
………….. فهل يجوز هذا التّصرّف ؟ من هو هذا الحزب ليمارس هذا النّوع من الضّبط الأمني (إذا كان هناك من داع أمني من الأساس) ؟ كيف يمكن لتصوير هذا المركز المدمّر والموجود بعيداً عن جزر الحزب الأمنيّة أن يشكّل تهديداً للمقاومة وسلاحها ؟ …… ألا تشكّل هذه الممارسات خرقاً واضحاً لكلّ الأعراف والمواثيق ؟ ألا يشكّل هذا السلوك المتخلّف تحت ستار الأمن الذّاتي أكبر استفزاز للآخرين ؟
هذا مثل بسيط من عشرات الأمثلة السيّئة عن ممارسات حزب نصرالله من مداهمات وتوقيف واعتقال لأشخاص من تيّارات سياسيّة مناهضة له في العديد من المناطق اللبنانيّة، وكلّ هذا يأتي بعد اتّفاق الشّرف في الدّوحة !!!!!!! ألا يدفع هكذا تصرّف لامسؤول بباقي الأطراف إلى التّفكير جدّيّاً بالتّسلّح على نطاق واسع وتحت نفس الحجج التي يتذرّع بها حزب نصرالله ؟ فهذا الحزب لا يحقّ له ولا لأيّ حزب آخر وضع أيّة معايير لشروط التّسليح ….. أليست الدّولة وحدها هي المسؤولة وهي ملجأ لكلّ المواطنين في كلّ الأزمات ؟؟ أليس هذا إمعاناً في تقويض دولة المؤسّسات وإحياء دولة المزارع ؟
الحزب يطلق يوميّاً التّصاريح الإيجابيّة والمشجّعة وليس آخرها تصريح نائب أمينه العام نعيم قاسم والذي أكّد فيه استعداد الحزب للحوار في كلّ المواضيع الخلافيّة بما فيها سلاح المقاومة بهدف الوصول إلى أرضيّة توافقيّة تنتج استراتيجيّة دفاعيّة قادرة على حماية الوطن في وجه أيّ عدوان إسرائيلي محتمل، ….. وهذا أمر ممتاز جدّاً، وأضف إلى ذلك أنّ الحزب وحركة أمل وتيّار المستقبل أكّدوا عبر الإعلام رفع الغطاء عن كلّ المخالفين والمشاغبين، .. ولكن الممارسات على الأرض من إنفلات أمني واستفزازات واعتداءات تكاد تكون شبه يوميّة ….. يوحي وكأنّ هذه التّصاريح الإيجابيّة (بالشّكل) هي فقط للإستهلاك المحلّي، إذ أنّ أحداً لم يقدم على أيّ خطوة صارمة تجاه الفوضويّين من مناصريه، وكأنّهم يريدون بقائهم جاهزين لأيّ تصعيد عسكري مستقبلي محتمل.
حزب نصرالله يدرج كلّ هذه المخالفات والتّجاوزات تحت بند حماية سلاح المقاومة، وهذا هراء، فسلاح المقاومة، وإن تضمّن أكثر شبكات الإتّصال تطوّراً وأهمّ الصواريخ وأحدث المدافع، سيكون سلاح ركيك بلا قيمة وبلا جدوى ما لم يكن هناك إلتفاف شعبي شامل حوله، وسيكون سلاح ذات فعاليّة كبيرة، وإن اقتصر على السّكاكين والمسدّسات والرّشاشات، لو حظي باإلتفاف شعبي شامل حوله، …. وهذا ما على الحزب أن بفهمه ويستوعبه ويتقبّله ويقرّ بأنّ قرار الحرب والسّلم ليس حكراً على فئة واحدة من اللبنانيّين بل هو حق لكلّ اللبنانيّين بكلّ أطيافهم وطوائفهم مجتمعين، فحرب تمّوز 2006 أثبتت أنّ مقولة التّوازن الإستراتيجي مع العدوّ هي غير صحيحة، وأنّ تحييد المنشآت المدنيّة وتحييد المؤسّسة العسكريّة قد باتت مقولة باطلة فرضتها في الماضي ظروف استثنائيّة نجمت عن إنقسام اللبنانيّين الشّديد إبّان الحرب الأهليّة وفقدان أيّ دور أمني داخلي أو خارجي لأجهزة الدّولة اللبنانيّة، فالعدوان الإسرائيلي طال هذه المرّة كافّة أرجاء الوطن وطال الشّعب اللبناني بكافّة شرائحه وكان من الممكن أن يكون أشدّ فتكاً بكثير لو توفّر للإسرائيليّين الغطاء الدّولي اللازم لذلك، مع العلم أنّ المقاومة نجحت في إطلاق آلاف الصّواريخ على مدن إسرائيل وفي صدّ بعض التّوغلات البريّة العديدة وكذلك في إصابة بارجة وإسقاط هليكوبتر، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع إسرائيل من فرض حصار برّي بحري جوّي على طول وعرض الوطن وأيضاً من قصف ما كانت تراه مناسباً على كامل تراب الوطن.
يفترض بأحزاب الموالاة والمعارضة وعلى رأسهم حزب نصرالله أن يبادروا إلى ترجمة فعليّة للنّوايا المعلنة من خلال اتّخاذ خطوات حاسمة وحازمة في هذا الشأن لا أن يكتفوا بإطلاق التّصاريح الإيجابيّة أو تلك التي تقلّل من شأن ما يجري في بعض مناطق بيروت والجبل والبقاع، إللهم إلاّ إذا كانت هذه “المناورات” هي جزء من اللعبة السّياسة التي يتّبعونها للوصول إلى أهداف معيّنة، فقرار رفع الغطاء عن المخالفين عبر الإعلام هو غير كافي، المطلوب وبشكل طارئ وعاجل (وللأسف في هذه الظروف) هو توجيه النّداء إلى الجيش والقوى الأمنيّة بالضّرب بيد من حديد لكلّ المعتدين والمخالفين لأيّ جهة انتموا، فمثل هذا النّداء إذا صدر عن قيادات الصفّ الأوّل من كلّّ الأطراف في لبنان سيشكّل دعامة قويّة للأجهزة الأمنيّة والقضائيّة لكي تقوم بواجباتها على أكمل وجه، وستشكّل رادعاً فعّالاً أمام كلّ من تسوّل له نفسه التّفكير بالقيام بأعمال استفزازيّة أو تخريبيّة، فمن هنا تكون البداية، ….. لتأتي بعدها الخطوات اللاحقة من التّوجيه والتّوعية وأيضاً الدّعوة لعقد لقاءات سياسيّة وثقافيّة وإجتماعيّة من شأنها إعادة اللحمة بين مختلف شرائح الوطن وبالأخصّ اللحمة السنيّة الشّيعيّة.
أيمن شحادة
Ayman Chehade