وليد رباح
من مآسي هذه ( المزبلة) التي تسمى الانترنت .. انها تعطيك المعلومة لكنها تدمر ثقافتك .. ان لم تكن قد وطنت نفسك على ان تلفظ ما هو غريب عنك .. فمن يمتلك في جيبه بضع ( دولارات) وان كان جاهلا قد يودي بكل ما بنيته في حياتك من لب الثقافة ويحيلك الى قشرتها بل الى سمومها التي تدخل جسدك عبر بريدك او عبر ما يكتب فيها من توافه الكلام .
ومن مآسيها التي تعطيك دما ملوثا يزحف عبر اوردتك .. انها تفرض عليك قراءة ما يرسل لك لحب الاستطلاع فلا تستطيع استبعاده ..
من ذلك أنك تتجه في صباحك او مسائك الى حاسوبك لترى الجديد .. فتجد ان بريدك قد امتلآ بالموبقات .. كأن يعرض عليك شخص مثلا ان تشتري فيللا في جزر القمر .. او يهيل عليك ( متدين) جملة من التوافه ويسمي ذلك دعوة امره الله بها بل ويثيبه عليها .. وكأنى عدنا الى عصر ( ابي جهل) وبحاجة لمن يفهمنا قسرا ان استخدام اليد اليسرى في غسل استك بعد الاستنجاء يعني ان الشيطان قد دخل الى جسدك .. او تعطيك بعض الشركات سما زعافا لكي تسوق لك سلعة بائرة لا يشتريها أحد .. ومن ثم قد يعرض عليك احد ( القوادين) صورة حسناء تريد من يسليها في ليلتها الوحيدة المتوحده .. فيفسد عليك تجلياتك او عزلتك ويقحم عليك امرا لا ترغبه .. وأكثر ما يزعج ان المواقع في مجملها أو اكثرها تلتقط بريدك دون استئذان فترسل اليك أن تسجل اسمك فيها كمشترك .. فان لم تسجل فانها تواصل ارسال توافهها اليك .. ثم يضيفون اليك في نهاية الصفحة بعد ان تقرأها انك ان رغبت في الغاء اشتراكك فتقدم .. وكأنى بك من الاصل قد اشتركت .. وقد ينفحك احد المستشعرين او الكتبة بعضا أو كلا من قصيدة لا تملك بعد قراءتها الا ان تتقيأ . ثم يظن انه قد اصبح مثل العقاد او الرافعي أو نزار قباني .. فان قمت بتصحيح بعض ما كتب فانه يرسل اليك ساخطا بعض الكلمات المؤذية التي تعافها النفس . اكثر من هذا فان الكثير من المواقع ليس فيها رابط الالغاء . فتضطر لان تتأفف ويضيع عليك وقتك دون ان تستطيع شيئا .. وقس على ذلك ما تحويه هذه (المزبلة) التي تتحول الى تاجر ومراب وقواد وداع وطالب شهرة ومومس عطنة الرائحة وسافل وقح يغريك بالقراءة .. فتضطر في نهاية الامر الى استخدام الوقت لكي تمسح كل ما يأتيك فيضيع عليك ما ترغب وما لا ترغب .
ولا ينكر أحد ان هذه ( المزبلة) فيها بعض مما نرغب .. كأن تجد فيها ( وردة) ضاعت رائحتها بين الاكوام فتنظفها وتزرعها في كأس من الماء لكي تنتعش من جديد فتعطيك بعضا من رائحتها التي قربت على الذوبان .. او تشذب فيها فرعا من شجرة خضراء يانعة فقدت بعض بهائها نتيجة دفنها في الاكوام فتعيد اليها اخضرارها ورونقها .. او تلتقط معلومة ضاعت ملامحها مع الزمن من عقلك فتستعيد معها عافيتك الكتابية .. ولكن ذلك كله لا يتعدى واحد في المئة من صحيح المعرفة .. اما الباقي فهو غثاء قد يدجن عقلك بعض الوقت لكنه لا يغوص الى الاعماق . ومن منافعها ايضا انها قربت المسافة بينك وبين الانسان المثقف الذي لم يجد دار نشر لكي يظهر نتاجه بفعل المافيا التي تحاصر الكتاب ..
وليس فيما نكتب من نقد وانتقاد برع فيه العرب وحدهم .. بل انك تتلقى من شركات ومؤسسات اجنبية سواء كانت اوروبية او امريكية أو من اطراف هذا العالم الواسع جملة من بريد التسويق الذي تعافه النفس ويؤذي المشاعر .. فمن الذي ادراك يا سيدي انني ارغب في شراء بضاعتك ؟ او حبي وهيامي في سلعتك .. او تهييج مشاعري ان كنت غرا احب الحسناوات اللواتي ترى قشرتها على شكل ملاك ثم اذا ما خضت في دواخلها تريك من الروائح العطنة ما يؤذي نفسك وجسدك ومشاعرك ؟ ومن الذي قال لك انني احب الهامبورغر والدجاج المشوي ولحوم البقر والدجاج والخنزير ؟ من الذي طلب اليك ان تقتحم علي عزلتي ؟ من الذي طلب اليك ان ترسل لي غث الكلام وغث التسوق ؟ من الذي .. ؟؟؟
نحن لا ندعو الى لفظ هذا المسمى( بالانترنت) فهي مثل الفضائيات العربية تقتحم عليك غرفة نومك فلا تملك الا ان تشاهد ما فيها سواء كان جادا او رقيعا .. انه عصر العولمة الذي ( وان انكرناه ) يفرض نفسه علينا دون استئذان .. ولكن واجب الانتقاء يقع عليك وحدك .. والذي يؤذيك فعلا ان الكثير مما لا ترغب قد يذهب بوقتك الثمين الى الجحيم .. ليس ذلك فحسب .. بل يدمر ثقافتك التي تحرص عليها حرصك على ابنائك او سوي اخلاقك ؟ انها مأساه .. ولكنها مأساة رغم كل ذلك لا تستطيع الا ان تتلقفها فترضى بما ترضى .. وتعزف عما لا ترضى .. ولله في خلقه شئون.