بقلم نقولا ناصر*
(أي وساطة عربية يجب ان تجري مراجعة لاستراتيجية السلام التي تلتزم بها لكي تكون مؤهلة لانجاح الحوار الفلسطيني)
اخيرا اتفق قطبا الانقسام الفلسطيني على شيء وهما ما يزالان مختلفين على كل شيء: الاحتكام الى وساطة الاشقاء العرب لمساعدتهم في حل خلافاتهم . فالى أي حد يستطيع العرب المساعدة في ضوء فشل سلسلة من وساطاتهم السابقة ، خصوصا وان تجديد المناشدة الفلسطينية الجديدة لهم من اجل التوسط ثانية تذكر بان مبادرة وزراء خارجية جامعة الدول العربية للوساطة بينهم سيكون قد مضى عليها عام كامل في الخامس عشر من الشهر الجاري دون ان يتمخض عنها شيء .
مما لاشك فيه ان ما لم يستطع طرفا الانقسام التفاهم عليه فلسطينيا لن يتفاهما عليه عربيا وكذلك فان ما لم يستطع العرب دفع كلا الطرفين اليه سابقا لن يتمكنوا من دفعهما اليه الان الا اذا كانت مستجدات الوضع الوطني والاقليمي والدولي قد خلقت لديهما حوافز للاستجابة ، لكن قبل استجلاء ذلك لا بد من استقراء ماذا يامل كل من الطرفين في تحقيقه من الوساطة العربية وما هي الخلافات المستعصية ثنائيا بينهما ثم ما هي حدود قدرة الوسيط العربي على التوفيق بينهما حولها .
ان البيان المقتضب الذي اعلن فيه الرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم الاربعاء الماضي مبادرته الجديدة غير المشروطة للحوار تحت المظلة العربية لم يقل الكثير عما يامل فيه من الوساطة العربية غير دعوته “امتنا العربية الى التحرك على الصعيد الدولي لرفع الحصار الظالم عن اهلنا في قطاع غزة … الذي يشكل جريمة حرب” ، وهذه الاشارة – الدعوة في الحقيقة تمثل من ناحية نقدا للعجز العربي عن التصدي لجريمة الحرب الجارية في قطاع غزة وتشير بشكل غير مباشر لكنه واضح الى ان “التحرك” العربي ما زال مامولا فيه فلسطينيا وان “تحرك” متاخرا ، لكن لا علاقة لها بالوساطة العربية لحل الخلافات الفلسطينية لانها في الواقع تمثل نقطة الاتفاق الثانية بين طرفي الانقسام الفلسطيني ، لفظيا في الاقل ، بعد الاتفاق على الوساطة العربية .
غير ان ما تامل الرئاسة الفلسطينية في تحقيقه من الاحتكام للوساطة العربية يمكن استنتاجه من النص في بيانه المصاغ بدقة على دعوته الى “حوار وطني شامل لتنفيذ المبادرة اليمنية بكل عناصرها كما قررت ذلك القمة العربية في دمشق” بهدف “انهاء الانقسام الوطني … الذي يشكل خطرا اكيدا على مشروعنا الوطني” . ان هذا النص يوضح توضيحا لا لبس فيه امرين الاول ان الرئاسة الفلسطينية متمسكة ببرنامجها السياسي دوليا وداخليا والثاني انها تريد الاستقواء بالوساطة العربية استنادا الى شرعية قمة دمشق لانهاء ما ترى فيه “خطرا” داخليا على حظوظ هذا البرنامج في النجاح ، وهذا الاستقواء بالعرب لحل استعصاء داخلي ينسجم مع ما كان اعلنه الرئيس عباس من احتكامه الى العرب ايضا لحل أي استعصاء خارجي يواجه برنامجه في حال وصلت مفاوضاته مع دولة الاحتلال الى طريق مسدود ، مما يعطي مصداقية لما صرح به رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير صائب عريقات بان بيان عباس لا يشير الى أي “موقف جديد” .
وتاكد هذا التوجه للرئاسة ، الذي حرص عباس في بيانه على اعلانه باسم منظمة التحرير الفلسطينية ، بتصريحات اطلقها خلال سويعات بعد البيان ياسر عبد ربة امين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة الذي اشترط “قبل الجلوس على الطاولة” للحوار “ان تكون هناك خطوات واضحة ومحددة لانهاء الانقلاب” في قطاع غزة ، قبل ان يستبدل عبارة “انهاء الانقلاب” بعبارة “انهاء الانقسام” ليضيف بان انهاءه “يعني ايضا القبول ببرنامج منظمة التحرير والتزاماتها” .
غير ان عبد ربه اضاف مطلبا من الوساطة العربية لم يتطرق اليه بيان الرئيس وهو “وجود قوة عربية ومشاركة عربية في حماية الامن في غزة” وقد كرر هذا المطلب في اليوم نفسه نمر حماد المستشار السياسي لعباس ، وهذا المطلب لمنظمة التحرير والرئاسة يتقاطع مع اقتراحات اميركية اسرائيلية مماثلة من ناحية ويتكامل من ناحية اخرى مع مطالبة مكررة معلنة من الرئاسة الفلسطينية بارسال قوات دولية الى القطاع ، وهذه نقطة خلاف رئيسية بين قطبي الانقسام الفلسطيني لا بل ان معظم الفصائل الاعضاء وغير الاعضاء في المنظمة اعلنت معارضتها لها .
وتتقاطع المعارضة الفلسطينية التي تقودها حماس لهذا المطلب مع معارضة مصرية – اردنية معلنة ترفض المساهمة في تحمل اعباء يجب على دولة الاحتلال الاسرائيلي تحملها بموجب القانون الدولي وتشترط قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة قبل ذلك ليكون ممكنا النظر في مطلب يتم بحثه بعدئذ في اطار العلاقات العربية البينية .
واذا كان الرئيس الفلسطيني قد ذكر بانه سيتحرك عربيا “لضمان التاييد” لمبادرته فان اسماعيل هنية ، باسم حماس وحكومته في غزة ، دعا الى ان يكون الحوار الفلسطيني “تحت رعاية جامعة الدول العربية” ، وكانت حماس قد كررت مطالبتها بان تقوم لجنة تقصي الحقائق التي الفتها الجامعة في سياق مبادرتها المشار اليها في مستهل هذا المقال بزيارة القطاع ، وربما كانت حماس تريد بذلك كسر الحصار المفروض عليها اكثر مما تريد تقصي الحقائق التي رفعتها بمذكرة الى الجامعة في وقت مبكر , ويتضح ذلك من مطالبتها المستمرة بان تتحرك الجامعة لكسر الحصار المفروض على القطاع عبر العمل مع مصر على فتح معبر رفح على الحدود الفلسطينية المصرية ، وما زالت هذه نقطة خلاف بين طرفي الانقسام الفلسطيني حيث تصر الرئاسة على اعادة فتحها بموجب الاتفاقيات الموقعة بينما تصر حماس على ان تطور الاحداث قد اسقط هذه الاتفاقيات ولا بد من اعادة فتح المعبر على اسس جديدة ، وتتخذ مصر والدول العربية من هذا الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني ذريعة لبقائها متفرجة على الكارثة الانسانية المتفجرة في القطاع ، والاحتمالات واقعية جدا لنجاح الوساطة العربية في حل الخلاف حول ذلك بين الطرفين اذا قدر لمبادرة عباس ان ترى النور ، لكن حظوظ أي وساطة عربية في التغلب على نقاط الخلاف الاخرى لا تبدو واعدة بالقدر نفسه .
واقل هذه الخلافات يتعلق بالاصطراع على سلطة هي اما محاصرة بالعدوان العسكري المتواصل على احد جناحيها في قطاع غزة او هي مقيدة بمرجعيتها المتمثلة في الحاكم العسكري الاسرائيلي من ناحية وبارتهانها لكرم المانحين من ناحية ثانية في الجناح الاخر بالضفة الغربية ، اما اعوص هذه الخلافات فيتعلق بعملية للسلام وصلت الى طريق مسدود ما زال احد القطبين يعارضها بينما القطب الاخر ملتزم بها . ويبدو طرفا الانقسام في سرعة استجابتهما للحوار كمن يسعى الى استثمار الوقت الضائع الناجم عن التغيير المرتقب في الحكومتين الاميركية والاسرائيلية نتيجة بدء حملة انتخابات الرئاسة الاميركية واحتمالات كبيرة جدا لتغيير مماثل في اسرائيل ، فحماس تسعى الى كسر الحصار بينما تسعى الرئاسة الى محاولة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني لمصلحتها لتحسين اوراقها التفاوضية لتكون جاهزة لاستئناف المفاوضات حالما يستكمل شركاؤها المرحلة الانتقالية التي يمران بها .
والمفاوضات نقطة خلاف فلسطينية رئيسة ولا يمكن لاي وساطة عربية فيها ان تكون محايدة ، فالاجماع العربي على السلام كخيار استراتيجي انبثقت عنه مبادرة السلام العربية التي تستند الرئاسة ومنظمة التحرير الفلسطينية اليها في برنامجها السياسي لا بد وان تكون منحازة لهذا البرنامج واصحابه وبالتالي فان احتكام الرئاسة الى الوساطة العربية سيكون بالتاكيد وسيلة ضغط على حماس . والامين العام للجامعة العربية عمرو موسي يدرك جيدا ان وساطته تستهدف تاهيل الوضع الفلسطيني للتفاوض لان المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية لن تنتهي طالما بقي الانقسام الفلسطيني دون حل ، كما نقلت وكالة انباء الشرق الاوسط المصرية عنه قوله مؤخرا .
وتستقوي حماس لتعزيز مواقفها بالاتفاقيات الفلسطينية – الفلسطينية الموقعة بقدر ما تستقوي الرئاسة بالاتفاقيات الدولية التي وقعتها ، فقد حرص هنية في بيان استجابته السريعة لمبادرة عباس على الاشارة الى الاتفاقات الموقعة بين الطرفين ، دون ان يفصلها ، لكنها تشمل اتفاقات القاهرة ومكة ووثيقة الاسرى والمبادرة اليمنية التي طرح عباس مبادرته الجديدة على اساسها وتشمل ايضا اعلان صنعاء المنبثق عنها والموقع بدوره . وقد كررت فصائل منظمة التحرير بخاصة ، وخصوصا الجبهتان الشعبية والديموقراطية ، مطالبتها بتفعيل هذه الاتفاقيات كمدخل لتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية للعمل الوطني تاكلت نتيجة تغول سلطة الحكم الذاتي عليها .
فالاشارة الى هذه الاتفاقات لها اهميتها من عدة نواح ، الاولى ان بعضها وقع برعاية عربية ملزمة لرعاتها ، والثانية انها تخاطب مطالبة الفصائل الاخرى – التي كانت مشاركة وموقعة عليها – بان لا يكون الحوار الوطني ثنائيا يقتصر على فتح وحماس ، والثالثة ان جميع هذه الاتفاقات كانت وثائق توافق وطني على التوفيق بين البرنامجين الوطنيين المتضاربين ، وما زال تنفيذها استحقاقا معطلا برسم الرئاسة ، كما ان تنفيذها سيكون على جدول اعمال الحوار الجديد المرتقب وسيكون محك نجاح او فشل هذا الحوار ، مما يجعل أي عودة للحديث عن أي “برنامج وطني” في معزل عنها عودة الى نقطة الصفر ، كما فعل البعض في حاشية الرئيس خلال سويعات بعد اعلان مبادرته عندما تحدثوا بان انهاء الانقسام يعني القبول بالتزامات منظمة التحرير وبرنامجها الراهن ويعني “انهاء الانقلاب” اولا ، فعلام سيجري الحوار اذن !
ولا بد لنجاح الوساطة العربية في انجاح الحوار الفلسطيني المرتقب من التوفيق بين الطرفين على ثلاثة مسائل اساسية قاد عدم التوافق عليها الى انهيار كل جولات الحوار الفلسطينية السابقة والى فشل تلك التي نجحت منها في التوصل الى اتفاقات وطنية في وضع تلك الاتفاقيات موضع التنفيذ ، وثلاثتها غائبة عن المبادرة التي اعلنها الرئيس عباس نهاية الاسبوع الماضي لاستئناف الحوار ، مما يفسر ما استقبلت المبادرة به من حذر شديد وتحليلات ترى فيها مناورة تكتيكية لا توجها استراتيجيا ، بالرغم من المناخ السياسي الايجابي المتفائل الذي خلقته .
المسالة الاولى هي عدم التوافق على برنامج سياسي يكون اساسا لوحدة الصف الوطني المامولة ، اذ طالما ظل الاستقطاب قائما حول برنامجين وطنيين متضاربين في الاستراتيجية كما في تكتيكات النضال الوطني فان الانقسام سوف يظل نارا تحت الرماد ليتحول الى مجرد هدنة في الاصطراع الدائر عندما ينشط الحوار او الوساطات لكن سرعان ما يشتعل اوارها عندما يغيب الحوار الوطني او يستعصي .
والمسالة الثانية هي عجز ما يسمى بالنظام السياسي الفلسطيني الذي نشا في ظل الاحتلال منذ عام 1993 ، لاسباب ذاتية واخرى خارجية قاهرة ، عن خلق مؤسسات حيادية قادرة على ادارة الخلافات او الاختلافات الوطنية ، بعد ان نجح تماما في تفكيك وتهميش النظام السياسي الوطني السابق ، المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية ، حد الشلل ، وهو نظام كان قد اثبت جدارة في ادارة الاصطراع الداخلي عندما كان هذا الاصطراع يدور في “غابة بنادق” الكفاح المسلح وليس تحت مظلة “السلام” ، فمؤسسة الرئاسة وحكوماتها والمؤسسات الامنية والمجلس التشريعي ظلت حكرا على فصيل واحد ومنحازة له لا بل جزءا منه حتى لم يعد هذا الفصيل يدري اين تنتهي حدوده وتبدا حدود سلطة الحكم الذاتي ، الى ان جاءت الانتخابات التشريعية اوائل عام 2006 لكي تتمخض نتائجها عن القضاء تماما على أي حيادية واستقلالية للمؤسسات تمكنها من ادارة سلمية للصراعات الداخلية .
وربما هنا تكمن الاهمية الاكبر في مبادرة الرئيس عباس الجديدة ، التي فتحت فرصة جديدة للحوار الوطني حظيت بالترحيب العربي الشقيق والدولي الصديق والاستجابة السريعة لها من حماس والترحيب الاوسع من الفصائل كافة ، الاعضاء وغير الاعضاء في منظمة التحرير ، اذ انه لاول مرة تحدث بلغة محايدة اظهرت مؤسسة الرئاسة مستقلة غير متخندقة مع هذا الطرف او ذاك من قطبي الانقسام ، وهذه استقلالية مستحقة منذ مدة طويلة لكن تجذيرها في الظرف العصيب الراهن اصبح مطلبا وطنيا ملحا ينسحب على كل المؤسسات الاخرى لكي تتحول الى مؤسسات وطنية بعد ان تحول الوطن لفترة طالت اكثر من اللازم الى مؤسسة فصائلية كانت هي السبب في ما يصفه طرف بالانقلاب السياسي على نتائج الانتخابات التشريعية الاخيرة ويصفه الطرف الاخر بالانقلاب على السلطة .
ان المعارضة الاسرائيلية الاميركية لحوار الرئاسة مع ما تعتبره تل ابيب وواشنطن “ارهابا” ومراهنة “قنابل فلسطينية موقوتة” لا تريد حوارا وطنيا في الاصل على فشل المبادرة الجديدة للحوار اسوة بكل الحوارات والوساطات السابقة واعتبار التهديد باعادة فرض الحصار العسكري والاقتصادي على السلطة قدرا محتوما لا مفر منه في “حسابات” هؤلاء السياسية هو حذر مبني على فرضية ان المفاوضات مستمرة ومجدية ، لكن “الفشل” هو ما وصلت اليه هذه المفاوضات (مستشار الرئيس نمر حماد) ووصولها الى نتيجة لن يحدث الا ب”معجزة” (رئيس الوفد المفاوض احمد قريع) .
وهنا يكمن السبب الرئيسي الثالث الذي حان الوقت ايضا للتوافق عليه كي ينجح الحوار الوطني الفلسطيني ، وهو تحديدا وقف المفاوضات الجارية والاتفاق على اسس جديدة لاستئنافها ان كان لا بد منها . ان أي مراجعة ل”الشروط” التي اقترحتها فصائل فلسطينية عديدة لاستئنافها ركزت على وقف الاستيطان والغزو والعدوان بضمانات دولية ، غير ان الوقت قد حان لكي يشترط المفاوض الفلسطيني ، اضافة الى ذلك ، اعترافا رسميا اسرائيليا واميركيا مسبقا بدولة فلسطين ، بعد ان منحت منظمة التحرير الفلسطينية دولة الاحتلال اعترافا يكاد يكون مجانيا ، ثم يشترط ضمانات ملزمة لحرية حركة الناس والسلع عبر منافذ قطاع غزة كحاجة انسانية حيوية حتى يتوقف ولا يتكرر ما وصفه الرئيس عباس ب”جريمة الحرب” في القطاع .
غير ان أي وساطة عربية يجب ان تجري مراجعة لاستراتيجية السلام التي تلتزم بها لكي تكون مؤهلة لتبنى هذه المطالب الاضافية ولكي تنجح في انجاح الحوار الفلسطيني .
* كاتب عربي من فلسطين