منذ وقت طويل وأنا أبحث عن نموذج الحكم المستنير أوالحاكم الفيلسوف بلغة أفلاطون ، أو الحكم الرشيد . وهل هذا النموذج يوجد أو يمكن أن يوجد فى دولنا ؟ وإذا ما وجد ما هى شروطه ومؤهلاته ومقوماته؟ لقد شكل البحث فى مفهوم الحكم الرشيد أو الحاكم المستنير فكر وإهتمامات الفلاسفة والمفكرين منذ أقدم العصور ، بل لانذهب بعيدا إذا قلنا أن نموذج الحكم الرشيد يأتى فى صلب إهتمامات علماء السياسة الذين يولون جل إهتماماتهم حول عمليات الإصلاح السياسى والديموقراطى والبحث عن النظام السياسى المثالى الذى يعبر عن خصوصية بيئته وقدرته فى التعامل معها . وقبل الدخول فى موضوع المقالة اليوم أود أن أؤكد أن هذا المقال ليس من قبيل مقالات المديح أو التقرب التى إعتدنا عليها فى الماضى ، بقدر ما هى رؤية لدولة وحكم يبحثان عن دور فى عالم تحكمه القوة . وفى هذا السياق فإن المعيار والمحك ألأساسى للتمايز بين نظام سياسى وآخر هو السلوك السياسى سواء على مستوى الحاكم أو حتى على مستوى مواطنيه ، وهنا دور الدولة قد يكبرأ ويصغر ، فإذا ما جسد الحاكم من خلال سلوكه وقراراته وتصرفاته السياسية الداخلية والخارجية خصوصية نظامه السياسى وقدرته على التكيف والإستجابة والتعاطى العقلانى مع إستحقاقات عمليات الحداثة والتنمية والتطور ، بمعنى أن يتعامل الحاكم مع فلسفة الحكم من منظور المواطن المحكوم ، وبالمقابل إذا ما عبر المواطن عن سلوكه السياسى من منظور الحاكم ، وإذا ما تلاقت الرؤيتان رؤية الحاكم للحكم ، ورؤية المواطن المحكوم للحكم عندها يمكن أن يرقى النظام السياسى ويكتسب خصائص ومقومات الحداثة والقدرة على الإستجابة والتكيف وتجاوز عثرات التنمية والتطور . هذا التلاقى يتجسد ليس فى مجرد عبارات أو شعارات أو مضامين سياسية فارغه ، بل من خلال رؤية سياسية منفتحه وواقعية وقابله للتطبيق ، رؤية سياسية تتحرر من القيود السلبية لحركة المكان والزمان ، تتجسد فى داخلها حركة مجتمعية متراكمه وفى إطار من الكونية السياسية ، وتترجم فى سياسات تنموية على كافة الصعد بما فيها المجال السياسى ذاته الذى يعمل من خلاله الحاكم عبر إتاحة الفرصة الكامله للمواطن الحاكم أن يساهم ويشارك فى عملية البناء السياسى الديموقراطى فى إطار من المؤسسات التمثيلية والدستورية والقانونية . هنا يخلق الحاكم النظام المثالى الذى يأتى من الداخل وليس من الخارج عبر الضغوطات ، لأن الإصلاح الحقيقى هو الإصلاح الذى تلتقى فيه دائرة الحاكم مع دائرة المحكوم ، والتى تترجم فيما بعد فى مفاهيم كثيرة كالمواطنه والإنتماء والولاء وحب الوطن , فيرى الحاكم نفسه فى مواطنيه ، ويرى المواطن نفسه فى الحاكم نفسه ، وهنا يسود الشعور بنحن وليس الشعور بالفردانية والولاءات الضيقة .
أعود وأتساءل ثانية ما هى مقومات الحكم الرشيد والملك المستنير؟ هذه القضية عالجها كل الفلاسفة على مختلف العصور ، ولعل ألأشهر أفلاطون الذى تحدث عن الحاكم الفيلسوف ، وجعله أساس الحكم الصالح ، وليس معنى ذلك أن يكون الحاكم عالما أو فيلسوفا بالمعنى الحرفى واللفظى للكلمه بقدر ما يعنى قدرة الحاكم على خلق البيئة السياسية الدافعه والحاضنه للعقل البشرى كى يبدع وينتج ، بيئة تتوفر فيها كل المقومات المادية والفكرية التى تتيح فرصة ألإزدهار للجامعات أن تنمو وتكبر ولمراكز البحث أن تمارس عملها العقلى المبدع , ولذلك الحاكم الستنير يرى نفسه فى كل هذه المؤسسات العلمية والإبداعية والمنتجه ، ولا يتوقف ألأمر عند هذا الحد بل هو الحاكم الذى تتوفر لديه الرؤية والقدرة على أن يحول مجتمع إلى مجتمع منتج عامل وغير عاطل . إذن الحاكم المستنير ليس فقط أن يكون ملما بأبواب العلم الواسعة بل هو الذى يوفر البيئة السياسية الحاضنه لعقول أبنائها ، والمعيار هنا ليس فى إنشاء المؤسسات العلمية بل المحك ألرئيس هو التعامل مع مخرجات العلم والمعرفة بإتاحة مزيد من هامش الحرية الفكرية والمشاركة السياسية ، ومزيد من ممارسة الحقوق والحريات المدنية والسياسية .
وما علاقة هذه المقدمة بالنموذج ألأردنى والنموذج الذى يقدمه الملك عبد الله الثانى ؟ لقد شدنى أألأهتمام بهذا الملك منذ أن تولى الحكم فى اليوم ألأول وخطابه أمام مجلس النواب ألأردنى وكيف منذ ذلك الوقت والملك لم يكتفى بالحكم ومفاخره ، بل بالقدرة على التطوير ومتابعة شؤون الحكم ، وكيف أنه نجح فى تقديم نموذجا جديدا للحاكم أعادنى ألى النموذج ألأفلاطونى ، تطور فى مفردات الخطاب السياسيى سواء خطابه أما الكونجرس ألأمريكى بمجلسيه وكلماته العديده أمام المنتديات ألأقتصاية وغيرها من المحافل الدولية ، وزياراته الدؤوبة إلى العديد من عواصم العالم ، وكيف نجح فى أن تكون ألأردن بمساحته الصغيرة وعدد سكانه الصغير أيضا لكن الكبير بدوره ووظيفته ، فباتت الأردن من أغنى الدول العربية فى جامعاتها ومراكز الدراسات فيها وبتكوين المدن الطبية ومدارس ألإبداع التى تحتضن الموهوبيين ، وهدذا تحول ألأردن على دولة غنيه بعقول أبنائها فى شتى المجالات العلميى ، وما كان هذا ليتسنى لولا إلإدراك السياسى ان هذا لن يتحقق دون توفير بيئة سياسية تتيح قدرا من المسؤولية والحرية السياسية والمساهمه فى عملية البناء الدولة والمجتمع ، ولذا يصنف ألأردن فى عداد الدول العربية الأكثر ديموقراطيه بتعددية قواه السياسية حتى التيارات السياسية ألإسلاميه تجد دورها طالما أن الجميع يدرك أن هذه المسؤوليية لا يمكن أن تتم بمعزل عن المحافظة على البناء السياسى والمجتمعى وأن الكل يجد نفسه فيها الحاكم يجد نفسه فى الولة والمجتمع ، والدولة والمجتمع تجد نفسها فى الحاكم ،هذا هو محور النموذج ألأردنى .
ولعل ما لفت إنتباهى فى هذه التجربة وهذا النموذج هذا التحول السلس والسهل فى عملية إنتقال السلطة فى ألأردن وكيف تحول ألأمير حسن إلى أحد أهم وابرز الفكرية ليس على المستوى العربى بل وعلى المستوى الدولى بتجسيد للحرية الفكرية وتلاقى الفكر العالمى فى بوتقة الإنسانية المشتركه ، ليقدم بذلك نموذجا حضاريا لمفهوم الدولة والحكم .
وأخيرا هذا النموذج للدولة والحكم يستمد مقومات نجاحه من إدراك الملك للمحددات التاريخية والجغرافية والمجتمعية للأردن ، فألأردن بموقعه الجغرافى يعتبر دولة تتلاقى فيها العديد من المؤئرات الداخلية والخارجية ، فهى منطقة عازله للمنطقة النفطية ـ ومنطقة أو بؤر الصراع ألإقليمى والدولى ، ومن طرفها ألآخر فلسطين وإسرائيل بما يعنيه ذلك من قدرة على التعامل مع كل مؤثرات الصراع العربى الإسرائيبى ، فدولة بهذا الموقع والتأثير الخارجى والتحولات الإقليمية والدولية ، لآ شك فى حاجة إلى بناء دوله ومجتمع وحكم وملك لديه القدرة على التعامل مع هذه المؤثرات المتضاضه والمتصارعة ولا يمكن أن يكون إلا حاكما مستنيرا .، وهذا هو أساس نجاح الحكم فى ألأردن .
هذه رؤية عن بعد لدور دولة وملك ومجتمع يلتقيان فى رؤية واحده للحاكم والمحكوم .لكاتب لم يزر ألأردن بعد.
دكتور /ناجى صادق شراب /أستاذ العلوم السياسية /غزه
.