تسند قامتها المنهكة إلى ذات الجدار منذ أربعين عاماً، بينما تدندن بأهزوجتها التي لم تنسها يوماً “يا مارق على أبو ديس إلفي وشوف.. الشباب بالساحة والسكّر على الرفوف”، ترد عليها رفيقة صباها وشبابها ببيت شعر ذا عنفوان أكبر “ثلاث قرى مابهن هبّة الريح الطور وسلوان والعيزرية. تلفي على أبو ديس تلاقي صبّابين السمن عالهيطلية”.
الحاجتين زريفة البوّ ومشايخ جفال ما تزالان تشتمّان رائحة أرض قريتهما المقدسية الوادعة “أبو ديس” بعد أربعة عقود على احتلالها وهجرة غالبية سكانها، كسائر قرى ومدن فلسطين خوفاً من الهجمات الإسرائيلية.
بنظرات أمل لم يخب بريقها طوال عقود تقول البوّ: “كانت أبو ديس حضن كبير للاجئين سنة 1948. كنا كلّنا أهل، إجونا ناس من دير ياسين ومن بيت جيز ومن القسطل وغيرها من القرى. وكان خير أبو ديس وكرمها يعم الجميع حتى انحكت فينا الأشعار”، في إشارة منها لبيتيّ الشعر الآنفين.
تلتقط جفال خيط بوح الشجون، قائلة: “كان ممنوعا على حدا من الفلسطينيين حمل سلاح منذ سنة 1948. وكان الاستعمار البريطاني فوق رؤوسنا، طلع من هان وسلّمها لليهود من هان”.
زفرات ألم تشق حديث الذكريات، بينما تطل من مآقي البوّ دموع لم يفلح عنفوان “أبو ديس” في مداراتها. تقول “ولما قامت الحرب خفنا، وكنا متخيلين إنها أيام ورح نرجع. وحتى لما انهزمنا كنا واثقين إنها حكاية أشهر وكل غريب رح يرجع لدياره.. طالت السنين ولحد اليوم بنستنى”.
تلتقط أنفاسها المتسارعة.. تكمل بعد دقائق: “لماّ طلعنا من أبو ديس كانت لحظات مأساوية. كلها ذهول وخوف وحسرة.. أخذنا معنا شوية حوايج وهربنا فيهم، وكل المونة خزنّاها في المغارات اللي جنب البيوت.. وإحنا طالعين…”.
مسحات حزن تعتمل في صوت البوّ وهي تتحدث: “ابن عمي أحمد البوّ ساعد مرته وأولاده ونسايبه يقطعوا نهر الأردن. وبعد ما صاروا في نص النهر وهو بدّه يلحقهم طخوّا الإسرائيليين عيلته كاملة قدام عينيه. ولحد اليوم عنده أمل يلاقي حدا من الأولاد يمكن ما مات”.
تجهش البوّ في بكاء عميق، بينما تربّت عليها جفال مواسية كما اعتدن طوال سنوات المأساة. تكمل عنها قائلة “كان ابني سنة أولى تجارة في مصر لما قامت الحرب، قلبي احترق لما سمعت صوته على الراديو وهو بحكي أنا عبد الله محسن أطمئن أهلي في أبو ديس عني وأقول لهم أني بصحة جيدة”.
تنهيدة انكسار لم يزل موغلا حتى اليوم، تعقبها قائلة: “في هذيك اللحظات حسّيت أكثر مرة بالضعف والحسرة. الحرب وخسرناها وابني وبعيد، والناس ما عاد حدا عارف عن الثاني وين راح.. الموت كان أرحم من هذيك اللحظات”.
تعود مرارة الجرح الذي لم يلتئم منذ أربعين عاماً لتنطق البوّ، التي تقول بينما تتحسس تطريز ثوبها الفلاحي الذي تصّر حتى اليوم وجفال على ارتدائه كما أيام القرية الوادعة: “أبو ديس وكل فلسطين كانت جنّة. القمح الشعير الكرسنة التين العنب المشمش الزيتون وبيار الميّ”.
نبرات لوعة أطلت من صوت جفال قبل أن تقول “أبو ديس كلها حلوة، بس أحلى إشي فيها المرج ومناطق الركبة والشعب والمرصص اللي اليهود سرقوها منا وبنوا عليها مستعمرة معاليه أدوميم.. أبو ديس طفوها مثل ما بتطفي الشمعة”.
تضرب البوّ كفاً بكف، بينما تقول “لما شفت صور أبو ديس الدنيا ما وسعتني من الحزن. قتلوها بالجدار العنصري اللي بنوه. كان هوا أبو ديس وفضاها مضرب مثل، وكنا نشوف قبة الصخرة من قريتنا. اليوم أبو ديس تحت الاحتلال.. ما حدا عمره رح يعاملها بالحنان والحب اللي عاملناها فيه”.
دموع لم تلبث أن أطلت من عينيّ جفال، بينما قالت “الله لا يسامحهم، شرّدونا في كل محل في الدنيا. أولادي كل واحد فيهم راح على بلاد واغترب سنين طوال بعد ما صار فينا اللي صار”. تعاجلها البوّ مكملة “وأولادي كل واحد فيهم في دنيا، وقلبي بتقطّع لمّا بسمعهم بتذكروا أيام أبوديس وكيف قدروا يلفوّا كل دول العالم ومش قادرين يوصلوا أرضهم”.
وكما أحضان أبو ديس وظلالها الوارفة، تضم البوّ وجفال أحفادهما الذين لم يتوقفوا يوماً عن السؤال عن أبو ديس وليال سالفات أسرجتها الأفراح، وأيام أحيتها الخيرات الوافرة، مرددين “بأي ذنب حُرمنا من كل ذلك؟”.