رائد قاسم
في عام 2005 م، قال الرئيس المصري حسني مبارك إن الشيعة ولائهم لإيران لا لأوطانهم، فاحتج الشيعة على مختلف مستوياتهم ضد تصريحاته التي تناقلتها مختلف وسائل الإعلام على نطاق واسع.
إن في كلام الرئيس المصري جانبا من الحقيقة التي لا يمكن إنكارها. فثمة في المجتمعات الشيعية، في مختلف البلدان، تيار يؤمن إيمانا مطلقا بنظرية ولاية الفقيه، وبالتالي فانه يتخذ من الولي الفقيه قائدا سياسيا ودينيا، ليكون ولاؤه للجمهورية الإسلامية في إيران لا لوطنه. إذ إن مفهوم الوطنية عند تيار ولاية الفقيه يتجاوز الوطن القطري، المخالف تماما للنظرية الدينية الأممية، التي ترى في الأمة جمعاء كتلة واحدة من المفترض أن تكون تحت قيادة واحدة. وبالتالي فان الحالة القطرية بما تفرزه من دول وكيانات سياسية تعتبر أمرا طارئا مخالفا للإسلام. علاوة على ذلك، فان هذا التيار لا يرى بطبيعة الحال أن الكيانات السياسية القائمة تحظى بالشرعية. فكل نظام حكم ما عدا نظام ولاية الفقيه باطل بالضرورة، والوطن ليس سوى ذلك الإقليم الذي تسود فيه الطائفة، التي توالي في نهاية الأمر الولي الفقيه وبقية المرجعيات الدينية وتتعامل مع السلطة بقدر الضرورة. ويمكن ملاحظة أن في الحركية الشيعية ثمة تيارات مبتعدة عن السلطة تماما لأسباب دينية وأخلاقية ترتبط في نهاية الأمر بهذا المفهوم.
في موقع “البحرين اون لاين” احتدم نقاش حول تصريحات احد المسئولين الإيرانيين حول أحقية إيران بالبحرين. وكانت المفاجأة أن عدداً كبيراً من الأعضاء أيدوا هذه الدعوة! وكانت وجهة نظرهم تستند على كون البحرين إقليما شيعيا ولاؤه للمراجع الدينيين والسياسيين في إيران (!) وتحديدا الولي الفقيه، فلماذا تكون دولة مستقلة؟ وعلي أي أساس شرعي تكون البحرين دولة يحكمها نظام سياسي منفصل عن القيادة الشرعية في إيران؟
ويمكن ملاحظة سياسات حزب الله في لبنان أيضا. فتحركه دائما بناء على كونه امتداداً للجمهورية الإسلامية، يأتمر بأمرها ويعمل وفقا لأجندتها الدينية والسياسية. لذلك يرفض حزب الله من حيث المبدأ تسليم سلاحه للدولة اللبنانية حتى لو انسحبت إسرائيل من بقية الأراضي اللبنانية المحتلة وأطلقت كافة الأسرى، بناء على كون ولائه اممياَ ويعمل وفقا لعقيدة دينية مركزية. فقيادته الشرعية والسياسية في طهران وولاؤه الحقيقي للأمة التي يقودها الولي الفقيه، فهو الذي بيده الأمر والطاعة، أما الوطن اللبناني فليس سوى إقليما من ضمن الحالة الأممية، والدولة ليست سوى جهازاً محدوداً لا يمكنه استيعاب حزب الله كحركة مسلحة وحزب عقائدي وتيار ديني يعمل وفقا لأجندة تتجاوز الحالة الوطنية والقطرية الضيقة.
إن كافة أصعدة النشاط الشيعي الداخلي والخارجي تدور في فلك الفقهاء ورجال الدين، لتتمرغ بنظرياتهم وأفكارهم وآرائهم. وليس ثمة من فروقات جوهرية بين ولاية الفقيه المطلقة أو الحسبية، فكلتاهما تنبعان من الولاية العامة للفقهاء. فأتباع ولاية الفقيه المطلقة يضعون لبنات أنظمتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بناء عليها، فينظرون للمجتمع الشيعي باعتباره قاعدة جماهيرية يستند عليها حكم الولي الفقيه، ويرون في ولاية الفقيه القيادة الشرعية للشيعة في عصر الغيبة، وان على أبناء الشيعة أن يأتمروا بأوامرها وينتهوا بنواهيها، باعتبارها القيادة الشرعية والنيابة الوحيدة عن الإمام الحجة، فيدفعون الحقوق الشرعية للولي الفقيه، ويدعون إلى حركة سياسية موالية لحكومة الفقيه. في المقابل يرى أتباع المراجع القائلين بالولاية الحسبية أن ليس هناك نظام شرعي في عصر الغيبة، وان عليهم الالتزام بإصلاح المجتمع دينيا وأخلاقيا والمحافظة عليه من الغزو الثقافي الغربي والحروب المذهبية التي يشنها أعداء التشيع، والالتفاف والائتمار بأمر النائب العام للحجة الذي يحكم نيابة عنه ويقوم بتصريف شئون الطائفة وفقا للصلاحيات الممنوحة له والتي لا تشمل السلطة السياسية باعتبارها من مختصات الإمام الغائب فقط. وعلى هذا لم يسجل أتباع السيد الخوئي في معظم البلدان الشيعية حركة سياسية، لأنهم يأتمرون بأوامر مرجعهم ويسيرون خلفه. لذلك فان أتباع الولاية الحسبية وهم نسبة كبيرة من الشيعة يسيرون خلف مراجعهم الحسبيين أيضا وينفذون أوامرهم وفتاواهم التي لا تتعدى الواجبات التقليدية في عبادات أو معاملات.
في كلا الحالتين الشيعة خاضعون، ليس لهم من أمرهم شيء. فهم يتبعون الفقهاء على كل حال سواء قالوا بالحسبية أو المطلقة، ويأتمرون بأوامرهم في كل صغيرة وكبيرة.
في العراق يتبع الشيعة السيد السيستاني ورغم عدم قوله بولاية الفقيه العامة إلا أنه ينشط سياسيا من خلال الولاية الحسبية. ذات مرة قال احد رجال الدين البارزين وهو السيد محمد الصدر أن السيد السيستاني قال له: “ما أنا إلا كأحدكم ولا أوجب عليكم إتباعي وليس من حقي ذلك، وأنا أتحرك من باب الحسبة والكفاية”. إن السيستاني لا يتحرك باعتباره “ولي فقيه” بل من خلال الولاية الحسبية التي إحدى قواعدها الأساسية سد الذرائع، أي العمل بقدر الضرورة من اجل مصلحة الأمة إذا ما خيف عليها الوقوع في ضيق وشدة جراء الغفلة والتهاون وعدم مواجهة الأعداء. وفي العراق أيضا ينشط آية الله السيد محمد الحسيني الحسني، وهو مرجع ديني يعارض سياسات السيستاني ويدعو إلى زوال الاحتلال بالثورة عليه وقيام نظام إسلامي يمثل الأغلبية الشيعية، ويتبعه آلاف مؤلفة من الشيعة في جنوب العراق ووسطه أيضا.
وتشكل الحركات الدينية الشيعية نسيجا قويا ومتماسكا داخل مجتمعاتها وجلها تأتمر بأوامر رجال الدين الذين يرتبطون بالمرجعيات الدينية بروابط قيادية صارمة. لقد وردت تقارير محزنة من داخل العراق تتهم الميلشيات والتيارات الدينية الشيعية بفرض الحجاب بالقوة على النساء والفتيات العراقيات سواء كن مسلمات أو مسيحيات. وتلقت العديد من الناشطات العراقيات تهديدات بالقتل أن لم يرتدعن عن عدم ارتداء الحجاب والنشاط المناوئ للحركة الإسلامية. كما تشير التقارير إلى أن أنصار الزعيم الديني مقتدى الصدر انشأوا محاكم ونفذوا أحكامها الصادرة ومنها إقامة الحدود كالتعزيرات والإعدامات، كما تعرض العديد من الطلبة والطالبات في الجامعات العراقية للقمع جراء مخالفتهم لقيم الحركات الدينية المسلحة. ونشرت إحدى وكالات الأنباء أن حلاقين قتلوا على يد مسلحين إسلاميين لا يعرف إن كانوا من الشيعة أو السنّة لأنهم يحلقون الذقون في مخالفة لآراء الفقهاء!
كما ويجبر المسلحون المحلات التجارية على الإغلاق أيام مناسبات وفيات الأئمة خاصة في أيام عاشوراء، وكذا الحال بالنسبة للمجتمعات الشيعية الأخرى، فالذي لا يغلق في أيام الحداد على الأئمة يطعن في أمره ويقاطعه الناس باعتباره غير ملتزم بالدين.
وتسيطر الحركات الدينية على العديد من المراكز الاجتماعية وتحكم المجتمع من خلالها، ولا تسمح لآراء وتيارات أخرى بالعمل والنشاط في أماكن نفوذها. ويسري هذا القمع في العراق وباقي المجتمعات الشيعية والسنية على حد سواء، حيث لا يسمح بالنشاط المخالف عقائديا أو فقهيا في المحيط السكاني الشيعي، سواء لأطراف شيعية أخرى أو غيرها، وكذا الأمر بالنسبة للحركات الدينية السنية.
إن الأمة الشيعية تعيش استبدادا دينيا مقيتا، فلا يسمح بالعمل والحركة والنشاط داخل المجتمع سوى للحركة الدينية المرتبطة بالمرجعية. الحركات الدينية لا تعترف بالرأي الآخر وبالحرية العقائدية. ومن هذه الأوضاع المقلوبة نشأت الخلافات بين أتباع المرجعيات الدينية وعمت حتى بلغت مراحل خطيرة، وبلغت من الأمر أن انتقلت حتى للحياة الزوجية! فحدثت حالات طلاق لأن الزوج يتبع مرجعا والزوجة مرجعا دينيا آخر!
ليس من أجندة النشاط الديني الذي تبثه التيارات الدينية الحاكمة أي معنى لقيم الحرية أو حقوق الإنسان، إلا ما قالت به المرجعيات الدينية في أدبياتها. ينعدم ذكر الديمقراطية كنمط للحكم لتحل محله حكومة الولي الفقيه أو النيابة العامة. تتراجع مفاهيم حرية الإنسان وحقوق المرأة لتحل محلها مفاهيم وآراء وأحكام المرجعية الدينية وكأنها منزلة من الله تنزيلا مطلقا لا لبس فيه ولا غلس. فلكل مرجع ديني أتباع يرون فيه نائباً عن الإمام، وآراؤه وأحكامه وفتاواه واجبة التطبيق مهما كانت، لأنها صادرة عن نائب الحجة.
تتوارى قيم الحرية في النسق الاجتماعي الشيعي لتحل محلها نظم اجتماعية ودينية وأخلاقية وقيمية شمولية يطلقها الفقهاء الحاكمون، ويدعمونها دائما بالفتاوى التي تسري في عقول العامة كمجرى الدم في الأبدان، فيعمل بها الجميع. إن كل أتباع مرجعية دينية يتمسكون بها ويعرضون عن غيرها ويرون فيها شي من الباطل والتدليس.
إن الشيعة في العصر الراهن مشتتون ما بين المرجعيات الدينية، خاضعون لها في كل أمر ونهي. أما الحركات الشيعية السياسية فموزعة ولاءاتها ما بين المراجع الحاكمين أيضا، ومنها كانت الخلافات والانشقاقات والصراعات في لبنان والعراق والخليج. وجميع الحركات الشيعية الدينية مركزية الطابع والأداء وليس لها مع قيم الحرية سابق عهد وتجربة إلا في نطاق ضيق ومحدود، لأنها حركات وثوقية النزعة، تعتقد في أسسها ومرتكزاتها الحق المطلق المستند على الأدلة الروائية والعقلية التي وضعها الفقهاء. لذلك عاشت الحركات السياسية الشيعية صراعات عنيفة فيما بينها، أثرت بشكل مزلزل على قاعدتها الاجتماعية الهشة ونشبت على إثرها خلافات متصاعدة ما بين التيارات الدينية على الساحة.
إن ولاية الفقيه تقول بان الولاية للمرجع الديني وليس للأمة أي شأن في شئونها، فالفقيه وليها! إلا انه إنسان يصيب ويخطى وينسى ويمرض وينحرف أيضا، فكيف يستحكم برقاب ملايين البشر؟ أفقط لكونه فقيهاً؟
ومن هذا المعترك نشأت الصراعات المخيفة ما بين القوى الشيعية حول مفهوم ولاية الفقيه وحدودها ليمتد هذا الصراع من المرجعيات الدينية إلى قواعدها الشعبية. فالمخالفون للإمام الخميني في مقولته يتعرضون للاضطهاد والقمع، من أصنافه الإقامة الجبرية التي فرضت على العديد منهم ومنع تداول كتبهم ورسائلهم العملية ومنعهم من الإلتقاء بوسائل الأعلام والتصريح بمواقفهم المعارضة لولاية الفقيه. كما وتعرضت العديد من الحركات الدينية المرتبطة بهم للطرد والحجر على الأنشطة، وتعرض المئات من رجال الدين للسجن والتعذيب لأنهم خالفوا أو صرحوا بالنقد لنظام ولاية الفقيه الحاكم في إيران. كما ويمارس هذا الاضطهاد في كافة المجتمعات الشيعية بأشكال مختلفة، كلَ في نطاق سلطته. فالمناوئون للولاية الحسبية يتعرضون للاضطهاد من قبل الأكثرية القائلة بالولاية المطلقة وبالعكس (!) في حلقة مفرغة ليس لها نهاية، في أعاصير من الاستبداد والتمرغ بالقيم المجافية للحرية وحقوق الإنسان.
إن المجتمعات الشيعية على غرار نظيراتها السنية مجتمعات متخلفة إنسانيا وحضاريا وتقنيا جراء الاستبداد الحاكم دينيا وسياسيا واجتماعيا.
إن حقوق المرأة في المجتمعات الدينية الشيعية والسنية على السواء منتهكة جراء الأغلال والقيود التي تكبلها، فحولتها إلى كائن محطم ليس له دور سوى في كونه أداة للمتعة والإنجاب!! إن الثقافة الدينية ثقافة متعنتة، لا يسمح بنقدها وقراءتها من جديد، لا وجود لحرية الكلمة والفكر والرأي والضمير، كل ما تمارسه الحكومات المستبدة تمارسه المجتمعات على ذاتها، مصداقا لقول النبي الكريم (ص) “كما تكونوا يولى عليكم”.
المجتمع الإسلامي الشيعي غير متنوع، مركزي القيادة والأداء، لا تستشري فيه مفاهيم الحرية وقيم الليبرالية والديمقراطية. الجماهير الشيعية تميل إلى الخضوع للقيادة الشمولية التي تسيرها دينيا وزمنيا وفي مختلف المجالات الحيوية، الخاصة والعامة، الفردية والجماعية. عندما يصدر المرجع الديني فتوى فهي ملزمة لمقلديه، وعندما يقول الولي الفقيه برأي فان ذلك ملزم لأتباعه ومريديه. عندما ذم السيد الخامنئي التطبير، التزم أتباعه برأيه وسفهوا المخالفين رغم أن الكثير منهم كانوا يمارسونه قبل أن يدلي السيد الخامنئي برأيه!! لا وجود للتعددية والحرية في إطار نظام واسع يشمل المجتمع بكافة تنوعاته ومعتقداته، ولا يمكن للإنسان فيه أن يبدي اعتراضا على فتوى صادرة أو قيمة معمولاً بها، ولا يمكنه العمل بقناعاته الخاصة في إطار نظام مرن يسمح بالتعددية وينظم الاختلافات.
إن العادات والتقاليد المتحجرة التي تحكم الحياة الشيعية نشأت بناء على آراء المرجعيات الدينية. فالنظم الاجتماعية تُبنى غالبا على مرتكزات دينية وأخلاقية، وفتاوى العلماء تتعامل معها النظم باختلاف نسبي بين مجتمع وآخر.
يظل مفهوم الولاء الوطن ومشروع الدولة القطرية والانتماء الوطني عند الشيعة ملتبسا وناقصا ومتناقضا مع القيم الدينية. فالشيعة ولاؤهم لمرجعياتهم من خلال نظرية النيابة العامة للفقيه بشقيها ولاية الفقيه العامة أو الجزئية، أما الولاء للوطن فيظل طرحا غير مقبول. فكل كيان سياسي غير شرعي، وإذا ما كان غير شرعي فان الانتماء له حرام بالضرورة! وعندما يُنتقد الحركيون الشيعة بان ولاءهم لغير أوطانهم، فإما أن يثور غضبهم إذا ما كانوا في موقف المدافع والضعيف، وإما أن يفخروا بذلك إذا ما كانوا أقوياء ويقولون علنا “نحن حزب ولاية الفقيه” (!) ولنا فخر الانتماء! أما المجتمعات الشيعية فتقول في سرها وفي أعماق وعيها: “نحن شعوب ولاية الفقيه وسنبقى كذلك حتى يظهر القائد الملخص الذي سوف يجعلنا أسياد الأرض وقادة الأمم”.
* كاتب سعودي