نقولا ناصر*
لكي ينجح أي حوار وطني فلسطيني جديد لا بد من الاتفاق على ثلاثة مسائل اساسية
نقولا ناصر*
لكي ينجح أي حوار وطني فلسطيني جديد لا بد من الاتفاق على ثلاثة مسائل اساسية قاد عدم التوافق عليها الى انهيار كل جولات الحوار الفلسطينية السابقة والى فشل تلك التي نجحت منها في التوصل الى اتفاقات وطنية في وضع تلك الاتفاقيات موضع التنفيذ ، وثلاثتها غائبة عن المبادرة التي اعلنها الرئيس محمود عباس نهاية الاسبوع الماضي لاستئناف الحوار ، بوساطة عربية تبدو مطلبا معلنا يتفق عليه قطبا الانقسام الفلسطيني ، مما يفسر ما استقبلت المبادرة به من حذر شديد وتحليلات ترى فيها مناورة تكتيكية لا توجها استراتيجيا ، بالرغم من المناخ السياسي الايجابي المتفائل الذي خلقته .
المسالة الاولى هي عدم التوافق على برنامج سياسي يكون اساسا لوحدة الصف الوطني المامولة ، اذ طالما ظل الاستقطاب قائما حول برنامجين وطنيين متضاربين في الاستراتيجية كما في تكتيكات النضال الوطني فان الانقسام سوف يظل نارا تحت الرماد ليتحول الى مجرد هدنة في الاصطراع الدائر عندما ينشط الحوار او الوساطات لكن سرعان ما يشتعل اوارها عندما يغيب الحوار الوطني او يستعصي .
والمسالة الثانية هي عجز ما يسمى بالنظام السياسي الفلسطيني الذي نشا في ظل الاحتلال منذ عام 1993 ، لاسباب ذاتية واخرى خارجية قاهرة ، عن خلق مؤسسات حيادية قادرة على ادارة الخلافات او الاختلافات الوطنية ، بعد ان نجح تماما في تفكيك وتهميش النظام السياسي الوطني السابق ، المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية ، حد الشلل ، وهو نظام كان قد اثبت جدارة في ادارة الاصطراع الداخلي عندما كان هذا الاصطراع يدور في “غابة بنادق” الكفاح المسلح وليس تحت مظلة “السلام” ، فمؤسسة الرئاسة وحكوماتها والمؤسسات الامنية والمجلس التشريعي ظلت حكرا على فصيل واحد ومنحازة له لا بل جزءا منه حتى لم يعد هذا الفصيل يدري اين تنتهي حدوده وتبدا حدود سلطة الحكم الذاتي ، الى ان جاءت الانتخابات التشريعية اوائل عام 2006 لكي تتمخض نتائجها عن القضاء تماما على أي حيادية واستقلالية للمؤسسات تمكنها من ادارة سلمية للصراعات الداخلية .
وربما هنا تكمن الاهمية الاكبر في مبادرة الرئيس عباس الجديدة ، التي فتحت فرصة جديدة للحوار الوطني حظيت بالترحيب العربي الشقيق والدولي الصديق والاستجابة السريعة لها من حماس والترحيب الاوسع من الفصائل كافة ، الاعضاء وغير الاعضاء في منظمة التحرير ، اذ انه لاول مرة تحدث بلغة محايدة اظهرت مؤسسة الرئاسة مستقلة غير متخندقة مع هذا الطرف او ذاك من قطبي الانقسام ، وهذه استقلالية مستحقة منذ مدة طويلة لكن تجذيرها في الظرف العصيب الراهن اصبح مطلبا وطنيا ملحا ينسحب على كل المؤسسات الاخرى لكي تتحول الى مؤسسات وطنية بعد ان تحول الوطن لفترة طالت اكثر من اللازم الى مؤسسة فصائلية كانت هي السبب في ما يصفه طرف بالانقلاب السياسي على نتائج الانتخابات التشريعية الاخيرة ويصفه الطرف الاخر بالانقلاب على السلطة .
واذا كانت “حيادية” لغة بيان الرئيس للاعلان عن مبادرته قد لامست المسالة الثانية فان البيان الذي اعلنه اسماعيل هنية باسم الحكومة وحماس في غزة قد لامس المسالة الاولى ، وهي الاهم لكي ينجح أي حوار وطني ، عندما اشار الى الاتفاقات الموقعة بين الطرفين ، دون ان يفصلها ، لكنها تشمل اتفاقات القاهرة ومكة ووثيقة الاسرى والمبادرة اليمنية التي طرح عباس مبادرته الجديدة على اساسها وتشمل ايضا اعلان صنعاء المنبثق عنها والموقع بدوره .
فالاشارة الى هذه الاتفاقات لها اهميتها من ناحيتين ، الاولى انها تخاطب مطالبة الفصائل الاخرى – التي كانت مشاركة وموقعة عليها – بان لا يكون الحوار الوطني ثنائيا يقتصر على فتح وحماس ، والثانية ان جميع هذه الاتفاقات كانت وثائق توافق وطني على التوفيق بين البرنامجين الوطنيين المتضاربين ، وما زال تنفيذها استحقاقا معطلا برسم الرئاسة ، كما ان تنفيذها سيكون على جدول اعمال الحوار الجديد المرتقب وسيكون محك نجاح او فشل هذا الحوار ، مما يجعل أي عودة للحديث عن أي “برنامج وطني” في معزل عنها عودة الى نقطة الصفر ، كما فعل البعض في حاشية الرئيس خلال سويعات بعد اعلان مبادرته عندما تحدثوا بان انهاء الانقسام يعني القبول بالتزامات منظمة التحرير وبرنامجها الراهن ويعني “انهاء الانقلاب” اولا ، فعلام سيجري الحوار اذن !
ان مسارعة اركان في الفريق التفاوضي للرئيس عباس الى تبديد الاجواء الايجابية التي خلقتها لغة مبادرته غير المشروطة بمواصلة اللغة السابقة عليها التي سعرت الانقسام وبتكرار الشروط المسبقة اياها التي لم تتطرق المبادرة اليها تشكك في صدقية الرئيس ان كانوا ينطقون باسمه اما اذا كانوا ناطقين باسم انفسهم فان تصريحاتهم لا تمثل فقط معارضة ، ان لم تكن تحديا ، للرئيس نفسه بل تنذر بوجود قنبلة موقوتة في صفوفه قد تفجر المبادرة التي بدا صادقا في طرحها وحريصا على وصولها الى نتيجة ايجابية ، اذا لم يتم بسرعة نزع فتيلها كي يكون بيت الرئاسة منظما قبل ان يتوجه الرئيس الى ترتيب بيته الوطني .
ويبدو ان مثل هذه القنابل الموقوتة تنسى او تتناسى بانها والرئاسة اسرى حصار سياسي وتفاوضي ومالي (لم يكن رفض الاحتلال الاخير تحويل مستحقات الضرائب والجمارك الى السلطة احتجاجا على مناشدة رئيس حكومتها الاتحاد الاوروبي عدم رفع مستوى علاقاته مع دولة الاحتلال الا احدث تذكير به) لا يقل احكاما وقسوة عن الحصار العسكري المفروض على “خصومهم” السياسيين في قطاع غزة الذين يعطون لحسم خلافهم الثانوي معهم “اولوية” على حسم تناقضهم الرئيسي مع من يحاصرونهم تحت الاحتلال في الضفة الغربية ، بفارق وحيد هو انهم “هناك” يقاومون بينما هم ليسوا محرومين من المقاومة فحسب بل مطلوب منهم قمع أي مقاومة تتعارض مع “الالتزامات” التي يطالبون الطرف الاخر الالتزام بها ، وقد حان الوقت لاعادة النظر في اولوياتهم بعد ان خذلهم كل “شركائهم” في عملية السلام العقيمة .
ان المعارضة الاسرائيلية الاميركية لحوار الرئاسة مع ما تعتبره تل ابيب وواشنطن “ارهابا” والمراهنة على فشل المبادرة الجديدة للحوار الوطني اسوة بكل الحوارات والوساطات السابقة التي افشلوها واعتبار التهديد باعادة فرض الحصار العسكري والاقتصادي على السلطة قدرا محتوما لا مفر منه في “حسابات” البعض السياسية هو حذر مبني على فرضية ان المفاوضات مستمرة ومجدية لكن “الفشل” هو ما وصلت اليه هذه المفاوضات (مستشار الرئيس نمر حماد) ووصولها الى نتيجة لن يحدث الا ب”معجزة” (رئيس الوفد المفاوض احمد قريع) .
وهنا يكمن السبب الرئيسي الثالث الذي حان الوقت ايضا للتوافق عليه كي ينجح الحوار الوطني ، وهو تحديدا وقف المفاوضات الجارية والاتفاق على اسس جديدة لاستئنافها ان كان لا بد منها . ان أي مراجعة ل”الشروط” التي اقترحتها فصائل وطنية عديدة لاستئنافها ركزت على وقف الاستيطان والغزو والعدوان بضمانات دولية ، غير ان الوقت قد حان لكي يشترط المفاوض الفلسطيني ، اضافة الى ذلك ، اعترافا رسميا من الاحتلال بدولة فلسطين ، بعد ان منحت منظمة التحرير الفلسطينية دولة الاحتلال اعترافا يكاد يكون مجانيا ، ثم يشترط ضمانات ملزمة لحرية حركة الناس والسلع عبر منافذ قطاع غزة كحاجة انسانية حيوية حتى يتوقف ولا يتكرر ما وصفه الرئيس عباس ب”جريمة الحرب” في القطاع ، والا فلتذهب المفاوضات الجارية الى الجحيم لان الوطن بجناحيه لم يجن منها سوى الجحيم ، فالوضع الراهن لم ولن يستفيد منه سوى الاحتلال ولم يعد يعقل ان يفاوض نصف الوطن بينما نصفه الاخر ضحية “جريمة حرب” !
فاذا نجح الحوار المرتقب في التوافق على هذه المسائل الثلاث فانه يضع اساسا راسخا للوحدة الوطنية يكون قاعدة لوحدة النضال الوطني بكل اشكاله ، وحينها فقط يمكن للادوار ان تتوزع وللمهام ان تتنوع بين الفصائل والقوى الوطنية ، غير ان الاقرار بالحقائق يقتضي ان يسجل أي مراقب للوضع الفلسطيني عن كثب حقيقة ان مفتاح التوافق موجود بيد الرئاسة الفلسطينية التي اذا ما واصلت التشبث ببصيص امل في ان معجزة ما قد تحدث فتجبر الاحتلال وراعيه الاميركي على تلبية برنامج الحد الادنى التي رضيت به فان مبادرتها الحالية للحوار لا تعدو كونها مناورة تكتيكية في هذا السياق وليس توجها استراتيجيا لتغيير مساره .
*كاتب عربي من فلسطين