لمّا تزل أريحا تسكن في خيال الستيني شاهر حتر بنخيلها، أعمدتها الأزلية ودفء جنباتها التي ضمّت المهجرين من فلسطين التاريخية، كما شكّلت لعقود جسر تواصل بين الأهل شرقي وغربي النهر المقدس.
حسرات وذكريات لا تستكّن في قلب حتر، المتحدر من جبال السلط، والذي كان يتردد وعائلته الكبيرة إلى أريحا – مشتى الأردنيين من أبناء الضفتين في تلك الأيام.
“كان لأبي هناك مصالح تجارية بين دكاكين ومعامل بلاط وغيرها من الاستثمارات. كنا نشتّي فيها ونصيّف بين كروم السلط “، يستذكر شاهر (أبو موسى) الذي لم ير تلك الديار منذ عشية الحرب. في البال، مهرجان البرتقال الذي انطلق عام 1964، واضعا البلدة الوادعة على طريق الاحتفالات القومية. “منذ ذلك الحين، بتنا نعيش بشكل شبه دائم في ربوع أريحا، حتّى فرقتنا الحرب”، يستذكر الرجل. بدقائق كنّا نقطع “الشريعة” دون حواجز أو عقبات.
بعد أن أكمل حتّر دراسته الثانوية في مدرسة مخيم “عقبة جبر”، اندلعت حرب عام 1967، التي سبقتها “أحلام كبيرة”، حسبما يستذكر بحرقة. ويضيف: “ساهم الإعلام كثيرا في تضخيم تلك الأحلام، لذا كان وقع الهزيمة مروّعا”.
خطوط الأسى ترتسم على محيّا حتر بينما يستذكر لحظة سقوط أريحا.
“وزّع الاحتلال منشورات مفادها ألا نعترض الإسرائيليين لأن جيوشنا قد هزمت. كنا نبكي من وقع الهزيمة.. الرجال بكوا قبل النساء في تلك الأيام”.
شريط الذكريات يأخذ منحى أكثر وردية. يقول حتّر: “كانت بلدية أريحا قبل النكسة ترش الماء البارد على الناس كي تلطف من جوّها الحار. كنا ننام على أسطح المنازل من بداعة الطقس ليلا. كان في أريحا مقومات أحلى حياة: المدارس، الأسواق، وكل الخيرات اللي ممكن تخطر على البال”.
تعتمل الحسرة في قلب هذا الأردني وهو يتذكر: “كاسة شاي في عين السلطان بأريحا بتسوى الدنيا وما فيها”.
أريحا، أقدم مدن التاريخ قاطبة، كانت تشكّل نقطة تلاقي وانطلاق صوب سائر مدن الضفة الغربية من جنين وحتى الخليل مرورا بالقدس الشرقية التي تبعد عنها أقل من 15 كيلو مترا.
رغم تكرار زيارات والده وعمّه لأريحا بعد سقوطها، يرفض حتر تصديق رواياتهم بأنها قد غدت شاحبة بعد كل ذلك البهاء. كما يرفض الحصول على تصريح لزيارتها حاليا. ويقول: “لا أحتمل أن يختم المحتلون جواز سفري كي أدخل لأغلى المدن على قلبي والتي عشت فيها طفولتي وشبابي.. لا أحتمل أن أراها محتلة، أحلم بزيارتها حين تتحرر لأروي ظمأي منها ومن زهرة المدائن”.