علي الصراف
لا تبدو إيران بحاجة الى الكثير لتعلن إنتصارها في الحرب الأمريكية على العراق. كان يكفي أن تدفع أتباعها ومواليها للإمتناع عن توقيع الإتفاقية الأمنية، لكي توصل الرسالة المطلوبة الى واشنطن.
والرسالة تقول: كل ما كان الغزو يطمح الى تحقيقه في العراق، صار بين أيدينا، ونحن وحدنا الذين نقرر ما يمكن وما لا يمكن لواشنطن أن تحصل عليه.
وهكذا، فلا إتفاقية أمنية، ولا قانون نفط وغاز. وقد يمكن لشركات النهب أن تدفع مليون دولار لكل “نائب” لكي تضمن توقيعه، إلا أن “النائب” الأكبر (أو “السوبر ديليغيت”، حسب متداول هذه الأيام) موجود في طهران، وهذا لا يمكن شراؤه بمليون دولار. يريد أكثر. وإذا أعطيته أكثر، فانه يريد أكثر.
ولكن الرئيس جورج بوش، وهو يحصي خسائره في العراق، لا بد له أن يفهم اليوم أن “حلفاءه” الذين ناموا معه في فراش الإحتلال، واستظلوا بدباباته لخمسة أعوام، لم يكونوا سوى أبناء وبنات هوى، يبيعون لمن يدفع أكثر أحيانا، أو لمن يوفر لهم ضمانات أكبر، أحيانا أخرى.
ويجب إنصاف هؤلاء الناس.
فهم لم يختاروا التخلي عن الإحتلال. الإحتلال هو يهدد بالتخلي عنهم. ومن الواضح أنهم إذا باعوا، فسبب البيع الحقيقي هو الجدل الدائر في الولايات المتحدة حول مصير بقاء القوات الأمريكية.
تخيّل بنت هوى تسمع “صاحبها” يهدد أو يناقش فكرة الإنسحاب. فماذا تفعل؟
الجواب بسيط، وبديهي: تذهب الى طهران. فماخور البيع والشراء هناك يتسع للجميع. فكيف إذا كانت تربطها به روابط زواج متعة أصلا؟
السبب الحقيقي للإنعطاف الذي يتخذه الكثير من أحزاب آية الله دونالد رامسفيلد وآية الله علي خامنئي، فيما يتعلق بالإتفاقية الأمنية هو أن قوات الإحتلال صارت تفتقر الى الرغبة بالقتال. “صولات” البصرة والموصل و”مدينة الصدر” قدمت دليلا قاطعا على أن هذه القوات تريد أن تخرج من أرض المعركة تاركة حلفاءها ليتدبروا أمرهم بأنفسهم.
المباحثات حول الإتفاقية الأمنية وقانون النفط والغاز ليست جديدة على أي حال، وعناصرها كانت مكشوفة منذ عامين على الأقل. فلماذا “الضغبرة” (مزيج الضباب والغبار) الآن؟
السبب هو أنه بينما صار الإحتلال يطلب أن يحصد ثمار “تضحياته”، وبينما يقف على أبواب إنتخابات يفترض أن يقدم خلالها لناخبيه حصيلة تستحق العناء، فإن عجزه المتزايد أقنعه بأنه يدور في حلقة مفرغة، وأنه يجب أن يبحث عن مخرج منها.
الإحتلال، أولا، فشل في مواجهة عمليات المقاومة. ولئن راهن على أعمال القتل والتدمير والتهجير لوقف تلك العمليات، فانه لم يكسب إلا القليل. في أواسط العام الماضي أعلن البنتاغون أن قواته ومليشيات حلفائه تتعرض لنحو 750 هجوما في الأسبوع. اليوم يبدو أن هذا العدد تناقص الى نحو 350 هجوما. والبنتاغون صار يتعمد إخفاء الأرقام لأنه يعرف حجم الفضيحة. ولكن، تأمّل في الرقم الأصغر مرة أخرى. إنه رقم هائل حتى بافتراض تراجعه. ولكي تضعه في سياقه، تخيّل لو أن إسرائيل تتعرض لـ50 هجوما فقط في الأسبوع، فماذا كان سيحصل؟
سادة المقاومة في العراق ما يزالون فيما يبدو، بعد كل هذه السنوات، قادرين على شن عدد هائل من الهجمات. وحسابيا، فالاحتلال يحتاج الى أن يتسبب في تهجير خمسة ملايين آخرين وقتل مليون ونصف مليون إنسان، وخمسة أعوام أخرى، وتريليون دولار، لكي يضمن تراجع الهجمات الى ما قد يصل الى 50 هجوما في الأسبوع.
الإحتلال، ثانيا، فشل فشلا فاضحا في تنصيب حكومة لا تمارس أعمال النهب ولا تغرق في الفساد، مما يجعل الأموال تذهب هدرا في بالوعة بلا قرار.
ثم أن الإحتلال، ثالثا، لم يكسب من العراقيين سوى الكراهية. لم تعد توجد أسرة واحدة في ثلاثة أرباع العراق، إلا وتعرضت لخسارة ما خلال السنوات الخمس الماضية. المشردون والجياع والأيتام والأرامل والمحرومون من أدنى الخدمات والسجناء والمفقودون هم الذين يرسمون الخطوط الرئيسية للوحة السوريالية السائدة في عراق اليوم. وكل أكاذيب آلة الإعلام الأمريكية والمليشياوية لم تتمكن من رسم صورة أخرى. وهات مجنون يمكنه أن يقبل، وسط هذه المأساة، بأن يحصد الإحتلال ثمار سفك الدماء، من دون أن يبدو في أعين العراقيين كمجرم ودجّال.
وزير الدفاع الامريكي روبرت غيتس لم يتحدث عن “نهاية الشوط” مؤخرا إلا من أجل أن يقدم تحذيرا لبطانته من أن وقت الخروج من الحلقة المفرغة قد أزف.
طبعا، كان من الضروري أن يحاول الحصول على ثمن خدماته. ولكن كان من الضروري أيضا أن يفهم أن بطانته ستحتمي بإيران، بل وحتى أكثر أتباعه إخلاصا سيحاول العثور على غطاء ما لستر العار.
ما يبدو اليوم وكأنه “موقف وطني” موحد حيال الإحتلال، مفيد، ولكنه يجب ألا يخدع أحدا. فمن ناحية، هو ستر لعار النوم في فراش الإحتلال. وهو عار “خلّف صبيانا وبنات”، وجيشا طائفيا ومليشيات. ومن ناحية أخرى، هو محاولة للبحث عن دعم أمني خارجي. وبدلا من غزاة يستعدون للهرب، فلا بد أن يكون هناك غزاة يرغبون بالبقاء. هذه هي كل القصة.
الطائفيون، بالتعريف، لا يستطيعون أن يكونوا وطنيين أصلا. وما يبدو وكأنه “موقف وطني”، لا يعدو كونه “بازار” مقايضات.
الطائفيون لا يصبحون طائفيين إلا لأنهم يضعون مصالح مليشياتهم فوق مصالح الوطن. ولهذا السبب هم باعوا العراق، وسيظلون يبيعونه، تارة الى هذا الغازي، وتارة الى ذاك.
إيران التي تزوّد المليشيات الطائفية بالحرس الثوري وبفرق الموت لذبح المناهضين للإحتلال، تبدو اليوم وكأنها أكثر قدرة على حماية طائفييها. ولا بد أنها تشعر أنه إذا كان العراق يمثل ثروة كبرى للولايات المتحدة، فأنه لا بد وأن يكون ثروة كبرى لها. وفي حين أنفقت واشنطن نحو تريليون دولار على محاولتها الفاشلة، فان طهران قد تستطيع أن ترث التركة بـ”بلاش”.
هكذا، صار جميع طائفييها “وطنيين” على حين غرة. ودفعة واحدة، خرجوا من فراش العم سام، ليدخلوا في فراش الإمام الدجّال. في البداية بحثا عن المال، وفي النهاية بحثاً عن الحماية.
هذا المنعطف مفيد على أي حال. ولكن من غير الزاوية المنظورة. فهم عندما يتراجعون عنه، سينكشف المزيد من حسابهم.
الموقف المعارض لتوقيع الإتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة ليس “وطنيا”. خدعة كهذه يجب ألا تنطلي على أحد. إنه مسألة بيع وشراء؛ مسألة “صاحب” يترك مكانه لـ”صاحب” آخر.
والنكتة التي ستظهر لاحقا، هي أن إيران ستكون هي البائع والمشتري. بمعنى، أنها ستوفر الحماية لمليشياوييها، ولكنها لن تقطع كل سبل الفائدة على واشنطن. فهي ستأخذ شيئا، وتعطي شيئا. وحيثما يقول باراك أوباما، المرشح الديمقراطي للرئاسة في واشنطن، انه مستعد للتفاوض من دون شروط مع طهران، فمن الأجدر بطهران أن تأخذ وتعطي معه. بل وحتى لو أُنتخب الجمهوري جون ماكين للرئاسة، فمن الأفضل التفاوض معه على تقاسم الحصص، لا مع رئيس صار “بطة عرجاء”.
هذا هو سبب “التوقيت” في إندلاع “الوطنية” إياها،… وكأنه لم يكن ما كان، من أيام التصافي بين الأصحاب والخلان.
الذين ينتظرون معجزات من هذه “الوطنية” يجب أن يكونوا قادرين على رؤية ما يوجد تحت عمامة الدجل في طهران.
وفي الواقع، فسيكون من الحكمة لو أنهم انتظروا الأسوأ.
إيران تعرف أنها لا تستطيع السيطرة، بمفردها، على العراق. فهذا مستنقع أكبر من قابليتها على دفع الثمن. ثم أنها تعرف، لو إنسحب الأمريكيون، فانها ستكون مضطرة لتوفير الحماية لعصاباتها، وهذا قد يعني خمسة ملايين مهجر ومليون نصف مليون ضحية آخرين، وخمس سنوات، وتريليون دولار، إلا أنه يعني أيضا إشتباكات طائفية و300 هجوما في الأسبوع تمتد نيرانها الى داخل إيران نفسها.
لا. ما سيحصل هو أن إيران ستبيع شيئا لتشتري غيره. وستجد أنها هي، أكثر من واشنطن نفسها، بحاجة الى بقاء الإحتلال في العراق. فهذه هي الضمانة الإستراتيجية الوحيدة، أولا، لإستمرار حرب الإبادة المنظمة ضد العراقيين الذين لا يمكن شراؤهم. وثانيا، لكي لا تمتد نيران المقاومة والإنقسامات الطائفية الى إيران. وهذه الإنقسامات، لو تدري، مدمرة أكثر في إيران مما هي في العراق. فالعراقيون (شيعة وسنة) في النهاية عرب، والأكراد سنة. بينما الفرس، بين طوائف إيران، ليسوا سوى أقلية تحكم بالخدعة الصفوية، من دون أن تتغلب على الشروخ القومية العميقة التي تفصل بين البلوش والأذريين والأكراد والسنة والعرب الأحوازيين وغيرهم.
سادة المقاومة الوطنية في العراق سيكونون أكثر حكمة لو أنهم لم يعوّلوا كثيرا على “وطنية” الدجّالين وميولهم المفاجئة للتخلص من الإحتلال. وسيكونون أكثر حكمة لو انهم ظلوا يركزون نيرانهم على قوات الإحتلال لإجبارها على الإنسحاب من دون شروط.
ساعتها، عندما يجلسون على طاولة واحدة ليبحلقوا عينا لعين مع إيران، سنعرف كم مليشياوي من طائفييها سيبقى في العراق.