معن بشور
سواء حملت صناديق الاقتراع الامريكية في تشرين الثاني/نوفمبر القادم السيناتور باراك اوباما الى البيت الابيض (كما حملته صناديق الناخبين الديمقراطيين ليكون اول مرشح اسود لحزبهم لرئاسة الولايات المتحدة الامريكية) ام لا، فان ما جرى في 3 حزيران 2008 من حسم “ديمقراطي” لترشيح اوباما يعكس حماسة امريكية كبرى للتغيير، وهي حماسة عابرة للون والعرق والجنس والاثنيات والولايات، وحتى للاجيال، بل هي حماسة لا تعادلها، في عصرنا الحالي، الا تلك الحماسة العارمة التي رافقت موجة البرسترويكا وغمرت مواطني الاتحاد السوفياتي قبل ان يكتشفوا، وبسرعة، حجم الانحراف الذي قادهم بوريس يلتسين ليعود فلاديمير (الثاني) بوتين محاولاً تصحيحه.
واذا كانت مصادر الحاجة الى التغيير في المجتمع الامريكي، متعددة ومتنوعة، فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فيها الاثني والديني والديمغرافي، فيها الداخلي والاقليمي (الاقليم الامريكي بقارتيه) والعالمي، فان احداً لا يستطيع ان ينكر دور منطقتنا العربية والاسلامية في تسريع اكتشاف الامريكيين لحاجتهم الى التغيير، بل في التعجيل بكشف بواطن الخلل العميق في نظام شكّل اعلى مراحل الامبريالية التي هي اعلى مراحل الرأسمالية حسب قول فلاديمير (الاول) لينين قبل قرن تقريباً.
وفضل السناتور اوباما الحاسم على غيره من “شيوخ” الكونغرس الامريكي انه كان الوحيد الذي صّوت ضد الحرب على العراق عام 2003 ، وانه ظهر كمدعاة للسخرية والهزء حين قدّم اقتراحاً الى الكونغرس الامريكي عام 2006 يقضي بسحب قوات بلاده فوراً من العراق، وهو اقتراح لم ينل انذاك سوى صوت صاحبه اوباما قبل ان ينال اليوم، على ما يبدو، اصوات 20 مليون ناخب ديمقراطي امريكي في الانتخابات الرئاسية التمهيدية.
العراق اذن كان العامل الحاسم في ظاهرة “اوباما”: وبرنامجه التغييري، جنباً الى جنب مع عوامل عديدة اخرى منها الاقتصادي المتصل بالركود الزاحف الى الولايات المتحدة ليحاصر من جديد “الحلم الامريكي” الذي طالما صوّروه وكأنه بديل عن “الوطن الامريكي”، ومنها المالي المتصل بازمة الرهن العقاري، ومنها النفطي المتصل بجنون اسعار النفط، ومنها النقدي المتصل بتراجع قيمة الدولار في كل انحاء العالم، ومنها الاجتماعي المتصل بتقهقر الخدمات الصحية والتربوية، ومنها الخدماتي المتمثل بالارتباك في معالجة الكوارث، ومنها الاخلاقي المتصل بسمعة الولايات المتحدة في كل ارجاء المعمورة، ومنها الاستراتيجي المتصل باخفاقات سياسية متتالية بدءاً من “الحديقة الخلفية” في امريكا اللاتينية وصولا الى العمق الاسيوي وغوره القديمة والجديدة وفي مقدمها الصين.
واذا كان المجال في هذه العجالة لا يتسع لتفصيل جوانب الفشل هذه بكل تداعياتها، فان احداً لا يستطيع ان ينكر دور الحرب على العراق (واستطراداً افغانستان والصومال، ومعهما الحرب الصهيونية على فلسطين ولبنان)، في الاسهام بشكل ملموس وجدي في تأجيج كل جانب من جوانب الازمة الامريكية الراهنة، وخصوصاً ان الادارة الامريكية لاحتلال العراق وصلت الى طريق مسدود مع رغبة غالبية الامريكيين في الخروج من المستنقع العراقي ، والاجماع الشعبي والوطني العراقي على رفض المعاهدة الامنية الامريكية العراقية المقترحة وهو اجماع لم يشذ عنه حتى بعض غلاة المتعاونين مع الاحتلال والمنخرطين في عمليته السياسية.
ولعل هذه الرؤية المبكرة لمازق المشروع الامريكي في العراق كانت وراء خطاب عربي واسلامي وعالمي انطلق مباشرة مع رصاصات المقاومة الاولى، التي انطلقت هي الاخرى فور احتلال العراق، وهو الخطاب الذي اعلنه مؤسسو المقاومة العراقية وقادتها وانصارها على امتداد الامة والعالم، والذي يتلخص بمقولة بسيطة : ان العراق، الذي ارادته ادارة جورج بوش ومحافظوها الجدد منطلقاً للهيمنة على منطقتنا ، وارادت من خلال نفطه ان تتحكم باقتصاد العالم بأسره، سيتحول بفضل مقاومته الباسلة الى قاعدة للتأثير الايجابي الحاسم على مستوى الامة بل على مستوى العالم كله، وهو عالم رازح تحت كابوس “النازية الجديدة” التي تهيمن عليه من خلال تحكمها بقرار الدولة الاقوى في العالم باسم “النيوليبرالية” ومكافحة ما يسمى بالارهاب، وكل ذلك من خلال عصابة “المحافظين الجدد”.
لقد كان ذاك الخطاب الرؤيوي، العربي والاسلامي والعالمي، حريصاً في الوقت ذاته على الربط بين تحرير الشعب العراقي من محتلي ارضه، وبين تحرير الشعب الامريكي من محتلي ارادته، معتبراً ان المقاومة العراقية (وهي بالطبع غير العمليات الارهابية المشبوهة التي كان هدفها تشويه وجه المقاومة) وهي تخوض معركة شعبها انما تسهم في معركة الشعب الامريكي ضد مستغليه ومحتكري خيراته ، بل انها وهي تدافع عن حياة العراقيين انما تسهم في الدفاع عن حياة الامريكيين الذين تبتلعهم يومياً آلة الحرب الاستعمارية الامريكية، كما انها بدفاعها عن الموارد العراقية انما تسهم في صون الموارد الامريكية في وجه اخطر عملية نهب وسلب وفساد عرفتها البشرية، بل في وجه اكبر عملية تبديد لهذه الموارد وهدر للطاقات والامكانات، ناهيك عن كونها معركة الدفاع عن القيم والمثل التي تؤمن بها الامتان العربية والامريكية في آن معاً وقد جرت محاولات بشعة لتشويهها ولهدمها ولاستبدالها بقيم زائفة وعابرة..
وحين قامت الثورة الفرنسية عام 1798، قيل ان من اسباب قيامها ثورة الاستقلال الامريكية التي حررت الولايات المتحدة من الاستعمار الانكليزي، وان احد قادة حرب الاستقلال الامريكية (لافاييت) هو احد قادة الثورة الفرنسية، مما يؤكد ان قيم الحرية والعدل والمساواة هي قيم انسانية لا تتجزأ ولا تخضع لازدواجية المعايير.
فهل يمكننا القول اليوم ان ثورة “التحرير” العراقية سوف تلهم ثورة “التغيير” الامريكية، وان من ارضنا الطيبة سوف تنطلق مرة جديدة رسالة انسانية كبرى الى العالم كله.
قد تفسر حماستنا بعض هذا التفاؤل، الذي قد يكون مبالغاً فيه، والذي قد يبدو مستخفاً بقدرات القوى المعادية لامتنا وقدرتها على الرد، بل وعلى تجويف اي انتصار وتزييفه، غير ان الثابت الوحيد الذي لا يمكن انكاره هو ان خطاب المقاومة في الامة، قومياً كان ام اسلامياً ام يسارياً ام ليبرالياً، لم يكن خطاباً خشبياً غارقاً في لجة الماضي السحيق، بل انه خطاب مستقبلي نقي، واذا كان فيه بعض الخشب، فهو من خشب “الأبنوس” الانيق حتى لا نقول انه من خشب خالد كخشب “الارز”.
الامين العام السابق للمؤتمر القومي العربي