تبدأ العلوم في حركتها التطورية والإنمائية مثلما هي حركة قطعة الثلج الهاوية من قمة جبل، فكلما اقتربت من سطح الأرض ازدادت حجما، وإذا ما إعترضتها الصخور تشظّت كرة الثلج إلى كرات أصغر ، والأخيرة تكبر لتتشظّى هي الأخرى إلى كرات أصغر وتكبر في حركتها المتواصلة، وهكذا هو حقل العلم، كلما طال الزمن كبر الحقل وتفرع إلى علوم جانبية ورئيسة، وهذه بدورها تتطور إلى علوم أخرى وهكذا دواليك، لكن كرات العلوم تختلف عن كرات الثلج فهي لا تنتهي عند سطح معين، فإنها في حركة دؤوبة باتجاهات مختلفة، يساعدها التكاثف الزمني والمعرفي في انفجارات بركانية علمية متتالية لا تعرف لأحمالها من مستقر، إذا خمدت لفترة تفجرت ثانية بحجم أكبر وبحركة متسارعة، يعجز حتى العلماء عن مواكبتها.
وبقراءة أولية لكل حقل من حقول العلم منذ نشأته حتى يومنا هذا، نجده يبدأ ببذرة ربما تكون مبثوثة في قاع ذهن المرء ثم تنمو تحت أشعة التفكير وبماء الحركة المتواصل المنساب على تربة خصبة من العقل المتفتق، فتشق طريقها إلى أرض الواقع فكرة تستوي على سوقها لتتصاعد أغصانها إلى عنان العلم، فتأتي ثمارها للبشرية كل حين.
ولعل علم الحديث من أنصع الصور الدالة على التطور الذي لحقه منذ أن بذر الرسول محمد (ص) حبّته، فإذا كان يصعب الوقوف على تاريخ عدد من العلوم من حيث النشأة وظروفها ورجالها الأوائل، فإن علم الحديث هو واضح المعالم، فهو علم حيوي يبحث في السُّنَّة التي هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وهي الشارحة لآياته، حيث هي محط إهتمام كبير من قبل علماء المسلمين لبيان أحكام الإسلام، لكن المدارس الإسلامية اختلفت في مديّات السنَّة على مستوى الأشخاص والزمن، فبينما اقتصر البعض على سنّة النبي محمد (ص)، وسَّعها البعض الآخر إلى سنّة الصحابة، وقصرها البعض على سنّة النبي محمد (ص) وأهل بيته فاطمة (ع) وبعلها علي (ع) وابنيها الحسن والحسين (ع) وتسعة أئمة من صلب الإمام الحسين إلى القائم المهدي (ع). ومن حيث الزمن اقتصر البعض على عام 11 هجرية وهو عام رحيل النبي محمد (ص)، ومدَّدها البعض إلى عهد الصحابة باعتبارهم الناقل الأول للحديث النبوي، وبدء مرحلة الإجتهاد، ومدَّدها البعض الآخر إلى عام 329 هـ وهو عام الغيبة الكبرى للإمام المهدي المنتظر (ع)، وبدء مرحلة النيابة العامة للفقهاء ومعها انطلقت مرحلة الإجتهاد.
والتطور الذي حصل في مسيرة السنّة ومدارسها الفقهية بحثها الدكتور الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي في ثلاثة أجزاء من سلسلة “الحسين والتشريع الإسلامي” ضمن مجلدات دائرة المعارف الحسينية التي تفوق أعدادها الستمائة، وفي الجزء الأول من سلسلة “الحسين في السنّة” يناقش الفقيه الكرباسي تفريعات علم الحديث، مؤصلاً لبعضها ومبدعا في بعضها الآخر، صدر عام 2008 في 604 صفحات من القطع الوزيري، عن المركز الحسيني للدراسات بلندن.
شجرة علوم
من الثابت أن المال الجامد كلما أخذت منه نقص، لكن العلم كلما أخذت منه ازداد نماءاً، فالمال أشبه بالركام، والعلم أشبه بالحفرة، ينقص الأول بالأخذ بينما تتعمق الثانية، وعلم الحديث اندكت جذور شجرته في عمق الفكر الإسلامي، فصار علوما جمة، تناولها المحقق الكرباسي بالبحث في علوم ستة:
أولا: علم دراية الحديث: يتناول نص الحديث وموازين قبوله أو رفضه.
ثانيا: علم رجال الحديث: يتناول أحوال الراوي بما يؤدي إلى قبول قوله أو رفضه.
ثالثا: علم تأصيل الحديث: يتناول كشف دواعي وملابسات صدور الحديث
رابعا: علم تصنيف الحديث: يتناول أحوال المؤلفات التي وضعت في الحديث.
خامسا: علم تاريخ الحديث: يتناول إنشاء وتطور الرواية وتوقيت صدورها
سادسا: علم رواية الحديث: يتناول عملية نقل الحديث من شخص لآخر.
ولا شك أن الإهتمام بعلم الحديث وتفريعاته على قدر كبير من الخطورة في الفقه الإٍسلامي، لأنه عليه يتوقف عمل الأمة كأفراد ومجموعات وأمم، وعلى أوتاد هذا العلم دالت حكومات وزالت أخرى. ومن ديدن المحقق الكرباسي أن يؤصل لكل باب من أبواب الموسوعة الحسينية الستين بمقدمة مستفيضة عن ذلك الباب تمهد الطريق للولوج إلى باحة الموضوع.
تفسير لا نسخ
وإذا كان علم الحديث ينطوي على تفريعات، فان علم الدراية وهو أحد تفريعاته، فيه من التفريعات ما تنفتح على تفريعات أخرى، وهذه المتوالية العلمية واحدة من مصاديق قول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (ت 148هـ): (إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرِّعوا)، أو قول الإمام علي بن موسى الرضا (ع) (ت 203هـ): (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفرُّع)، ولذلك نقرأ في باب علم الدراية التفريعات التالية: الدراية، قوة النص وسلامته، أقسام الحديث، أصناف النقل، تصنيف الرواية، طرق الوصول إلى السنّة، التعادل والتراجيح، وحي السُّنَّة، التأويل في الحديث، النسخ في الحديث، معالجة الرواية بالإنجبار، أدب الحديث، حجّية النص، مقومات قبول قول الراوي، مقارنة نص الحديث مع المناهل الأخرى، كيف نفهم السُّنَّة؟، المصطلحات، والتعامل مع السُّنَّة.
فالسّنَّة التي هي عدل القرآن الكريم تقوم إما بتخصيص عموم القرآن، أو تقيد مطلقه، أو تبيّن مجمله، أو تنسخ حكمه، ولا تنسخ تلاوته، وحتى بخصوص نسخ الحكم، فان الموضوع على قدر كبير من الخطورة، ولذلك يرى البحاثة الكرباسي أن: “مثل هذا النسخ أعني نسخ حكم الآية بالسنّة المتواترة يحتاج إلى إمعان ودقة حتى لا يقع المرء في ما وقع فيه بعض المفسرين لآيات القرآن وادعوا النسخ فيها لمجرد التنافي في النظرة الأولى، وكثيرا منهم أطلق النسخ على موارد من التخصيص أو التقييد فيما بين الآيات، وأطلق أيضاً على التفسير فيما بين الآيات والسنَّة”.
فالمراد من النسخ في القرآن في تصوره ومن حيث التطبيق هو: “نسخ الحكم دون التلاوة بمعنى أن الآية لا تلغى كونها جزءاً من القرآن، إلا أن الحكم الذي تضمنته هو الذي يلغى، وأما سائر أنواع النسخ أي نسخ كونها آية، والمعبر عنه بنسخ التلاوة، أو نسخ التلاوة والحكم معاً فهذا مما لا نقرّه ولا يقرّه إجماع المسلمين حيث يؤدي إلى التحريف المرفوض”، ويذهب الكرباسي أبعد من ذلك ليقرر: “وإنني بالذات أتحفظ على مسألة نسخ الآيات بالسنّة”.
حلقة وصل
يمثل الراوي حلقة وصل بين المصدر الأول والمتلقي، وتتعدد الحلقات بتعدد الرواة أو سلسلة الحديث، ودخل الراوي وشؤونه وحيثياته كأحد علوم الحديث ويطلق عليه علم الرجال، ولهذا أهميته العظمى، لأن الحلقة إذا اعتراها الوهن أو ضعفت أو ضاعت في سلسلة الحديث تعرض الحديث أو الرواية إلى الوهن والضعف، فعلم الرجال هو مفصل هام يحرك ساق علم الحديث في الاتجاهات السليمة. من هنا فان البحاثة الكرباسي يناقش هذا العلم ضمن الموضوعات التالية: الرجال، أهلية النقل، التعديل والتجريح، ألفاظ التزكية، ألفاظ الجرح، الدقة في المدح والقدح، طرق التوصل إلى الجرح والتعديل، تشخيص الراوي، حل المشتركات، والتصحيحات العامة.
ولا يعنى علم الرجال اختصاصه بالذكور دون الإناث، فهو من باب الغلبة أو المجاز، وإلا فهناك نساء راويات مثل زوجات النبي محمد (ص) كأم سلمة وعائشة، فضلا عن أن فاطمة الزهراء (ع)، من وجهة نظر المدرسة الإمامية واحدة من قنوات السنّة الشريفة، وكانت ابنتها زينب بنت علي (ع) من الراويات، لأن الأصل فيه هو أهلية نقل الحديث بغض النظر عن الجنس، على أن حمل الحديث مسؤولية خطيرة وكبيرة، لأن الراوي كما يؤكد الكرباسي: “يحمل حملاً ثقيلا وهي عملية نقل الأحكام سواء أكانت من نوع التشريع أو العقيدة أو الأخلاق أو التاريخ أو سائر الأمور الأخرى التي ترتبط بالإنسان بواقعه المعاش عبر العلاقات الست: علاقته بخالقه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمثيله، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقته بالدولة، وعلاقته بالبيئة”.
وينبغي أن تتوفر في الناقل العقل والرشد والأمانة والضبط، ومن الأمانة أن يكون الناقل صادقا وإن كان فاسقا في مورد آخر، فالمرء لا يخلو من أخطاء، وبتقدير الكرباسي أن: “القول بأن الفسق عنصر واحد لا يتجزأ مردود بأن العقلاء بل الفقهاء يعتمدون على قول الأطباء الفاسقين بل غير المسلمين في قبول أقوالهم في الطب ولا يناقشون في ذلك بأنهم عدول أم فساق”، كما يعتقد الكرباسي: “إن العقيدة بشقيها الإسلام والإيمان ليسا شرطين أساسيين في أهلية النقل والرواية”.
وإذا كان التقليد قائما على مستوى عامة الناس، فانه غير قائم عند علماء الشريعة في التعامل مع الرواية ونقلها، فإذا ما صرح السلف أن ما يرويه من أحاديث هي عن ثقات فلا تنسحب ثقته على المتأخرين من العلماء فيعزفوا عن البحث في الحديث وسنده ورجاله، فإذا كان اجتهاد السلف أوصلهم إلى توثيق مروياتهم، فان في الخلف ربما من هو أفقه، وحسب رأي الفقيه الكرباسي: “ولو صرح أحد بأنه لا يروي إلا عن ثقات فلا يعني وجوب إتباعه في ذلك، بل هو رأيه، وغاية ما في المسألة أنه يوثق كل الذين روى عنهم، فان تطابقت المباني فيها وإلا فلا حجة له”، ويعبر الكرباسي عن استغرابه لأن: “الكثير من الرجاليين والفقهاء وربما غيرهم أيضا يأخذون كلام السلف بأنه حجة ويلزمون أنفسهم لما يَرَوْنَ فيهم من القدسية التي لا يمكن تجاوزها، مع العلم أن في المتأخرين من هو أكثر منهم فقها ودراية”.
تأسيس وتأصيل
وعلم تأصيل الحديث هو واحد من التفريعات العلمية المستحدثة والقاضي بالكشف عن دواعي صدور الحديث، لما لها من تأثير كبير في فهم متن الحديث وما يترتب عليه من أحكام، ولذلك فان الكاتب يبحث هذا العلم ضمن التفريعات التالية: التأصيل، تعدد مسار الرواية، الوضع في الحديث، سوء الفهم، البدعة وأقسامها، الغلو والنصب، نوعية النقل، دواعي صدور الحديث، توقيت الصدور ومكانه، وإلغاء الآخر.
ويكشف البحث في الظروف المحيطة بالحديث، حقيقة الوضع والتزوير والتحريف الذي لحق بالروايات المنسوبة إلى السّنة، والشيخ الكرباسي إذ يؤكد حصول التحريف في السّنة ينفيه كليا عن القرآن، ويعتبر الجدال العقيم عن تحريف القرآن لا يعدو كونه نقاشا له صلة بوضع الأحاديث وتزويرها، حيث أن: “إجماع الأمة عقد على عدم وجود أي تحريف في كتاب الله، وما ورد من النقاش في تحريف القرآن فهو من ورود بعض الروايات الضعيفة أو بالأحرى الموضوعة، أو من قول ما نسب إلى بعض الصحابة، وهو مردود إجمالا وتفصيلا، ومن ادعى ذلك فعليه شخصيا أن يتحمل تبعات رأيه، ويعود في جوهره إلى الدس في الروايات والوضع في الأحاديث التي وردت في المقام”.
ولاشك أن الأساس في الوضع نابع عن المنع في تدوين الحديث، ولو تم تحرير الأحاديث في قرطاس بدلا من حفظها في الصدور والمنع عن التذاكر بها بين المسلمين، لما ظهر كتاب “الآيات الشيطانية” لسلمان رشدي المستند في معظمه إلى روايات وأحاديث موضوعة متوزعة بين مطاوي كتب الحديث، جمعها ونضّدها أدبيا، بل إن إطلاق وصف الصحيح أو الصحاح على كتب الحديث إشعار بوجود أحاديث كاذبة ومحرفة ومزورة، وكان الرسول محمد (ص) قد نبّه الأمة إلى الوضع الذي حصل في عهد ومن بعده، حينما خطب في حجة الوداع قائلا: “قد كثرت عليّ الكذّابة وستكثر بعدي، فمن كذّب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله وسنّتي فما وافق كتاب الله وسنّتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به”.
وقد يذهب الغلو بالبعض إلى خلق أحاديث داعمة لهذه الشخصية أو تلك، ويذهب العداء والنصب بالبعض إلى اختلاق أحاديث طاعنة بهذه الشخصية أو تلك، وإذا كان النصب اختص بمن يناصب العداء لأهل بيت النبوة (ص) ويبغضهم، فان الغلو حصل من كل المذاهب الإسلامية، ولهذا قال الرسول الأكرم محمد (ص) في الإمام علي بن أبي طالب (ع): “هَلَكَ فيك اثنان: مُحِبٌّ غالٍ ومُبْغِضٌ قالٍ”، وهذا النص جار في مفعوله إلى يوم القيامة وإن ألبسه البعض جلباب الولاء وألبسه البعض الآخر جلباب البراء، فالغلو مهلكة والبغض مهلكة.
أنصاف علم
إذا كان تنظيم المكتبات العامة علما قائما بذاته يدرس في المعاهد العلمية، فمن باب أولى أن التصنيف يأخذ علما مستقلا بذاته، فان المصنفات مادة المكتبات نفسها، ولما كان الحديث المادة الثانية إلى جانب القرآن المنزل، فان المصنفات الحديثية الكثيرة، هي بحر وعلم واسع، وقد بحثها الفقيه الكرباسي في العناوين التالية: التصنيف، في ظلال التصنيف، مقارنة، شروط توثيق الكتاب. على أن علم التصنيف لا يختصر بالمقروء، فهو يشمل الأقراص الممغنطة والمدمجة وغيرها حسب تطور العلم.
وأخذت المجاميع الحديثية مسميات عدة، فربما سميت الكتاب وتارة الأصل وثالثة النوادر، ورابعة المصنف، ولا ينبغي أن يؤخذ بها دون تمحيص وان كان مؤلفها أو جامعها علما من أعلام الأمة يشار له بالبنان، لأن الأصل التحقق من صحة الرواية، والتثبت من نسبة الكتاب إلى كاتبه، ومدى اعتبار المجاميع، ومدى اعتبار كتب الحديث ونصوص الروايات، وملاحظة النسخ المختلفة والمقارنة بينها، وملاحظة التحريف، ولذلك فان المؤلف ينتقد: “أنصاف الخطباء وأنصاف الكتاب – الذين – يعتمدون على بعض النصوص الملحونة ويقومون بتوجيه الناس نحو تلك المفاهيم المغلوطة دون أن يتعبوا أنفسهم التحقيق في ذلك، وربما لعدم قدرتهم على ذلك، أو لأنهم من أولئك النفر الذين بنيت فكرتهم على اللحن ومارسوا أعمالهم طيلة حياتهم على مفاهيم مغلوطة نقلت إليهم عبر الآباء والأجداد أو الخطباء والوعاظ، أو المؤلفين والكتاب”.
تاريخ العلوم
لكل علم تاريخ، ودراسة تاريخ العلم وظروفه وملابسه هو بحد ذاته علم، ودراسة علم تأريخ الحديث وتفريعاته من دراية ورجال ورواية وتأصيل وتصنيف، يبحثها الكرباسي في العناوين التالية: التأريخ، نشأة علوم الحديث والتأليف فيها، نشأة علم الدراية، التأليف في علم الدراية، نشأة علم الرجال، التأليف في علم الرجال، نشأة علم الرواية، التأليف في علم الرواية، نشأة علم التأصيل، التأليف في علم التأصيل، نشأة علم التصنيف، التأليف في علم التصنيف، نشأة علم تأريخ الحديث، والتأليف في علم تأريخ الحديث.
ومن البديهي أن علم الدراية نشأ على يد النبي محمد (ص) فهو صاحب مادته الأولى، وهو الذي: “وضع اللبنة الأولى لهذا العلم وذلك بتنبيه الأمة بل الفقهاء والرواة إلى أن هناك من يُكذّب عليه”، ويرجح الكرباسي أن يكون أبان بن تغلب الكوفي المتوفى سنة 141 هـ هو أول من كتب في علم الدراية.
أما علم الرجال فيرى المؤلف: “أن أئمة أهل البيت (ع) كانوا المبادرين إلى وضع أسس هذا العلم”، ويشار إلى أن عبيد الله بن أبي رافع وهو من أصحاب الإمام علي (ع) هو أول من صنف في علم الرجال.
ويعود علم الرواية في نشأته إلى يوم مبعث النبي محمد في 27/7/13 ق. هـ، وهو من أمر بتدوين أحاديثه، وهو القائل لعبد الله بن عمرو السهمي (7ق.هـ-65هـ) بعد أن نهته قريش عن ذلك، وقد أومأ (ص) بإصبعه إلى فمه: “اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حقا”، وكان الإمام علي (ع) وفاطمة الزهراء (ع) وعدد من الصحابة ممن دون الحديث في حياة النبي (ص) وبعدها.
ويرتبط علم التأصيل من حيث النشأة بالنصوص وتوثيقها، على أن هذا العلم اخذ موقعه المناسب بالنسبة إلى القرآن الكريم تحت عنوان أسباب النزول، وحسب الكرباسي: “أن بدايات هذا العلم رافقت العهد الأول من الإسلام إذ أن العقلية التي فكرت في البحث عن أسباب نزول الآيات القرآنية، لا يمكنها أن تتغاضى عن سبب صدور الروايات”، على إن التأليف في علم التأصيل جاء في وقت متأخر، وكثرت الدراسات بعد منتصف القرن الرابع عشر الهجري.
ولعلم التصنيف في نشأته ارتباط وثيق بتاريخ التدوين، وهو متأخر رتبة عن التدوين لأنه من نتائجه، ويشار إلى أن الشيخ الطوسي محمد بن الحسن (ت 460هـ) من أوائل من ألَّف في علم التصنيف في كتابه الفهرست، حيث ثبّت اسم الكاتب وحاله والكتاب وحاله.
ويرتبط علم تأريخ الحديث من حيث النشأة بإيراد الراوي لظروف روايته من حيث التوقيت والمكان وظروف الراوي والمروي عنه وغير ذلك، وملاحظة كل العوامل المحيطة تساعد الباحث على فهم النص والتعامل بعلمية مع المتن والسند. وهذا العلم حديث من حيث الطرح، وهو وإن كان لم يستقل تماما بعد ولكن نواته بدأت تظهر من خلال المناقشات في مختلف علوم الحديث.
آداب وسنن
ولا تشذ الرواية عن القاعدة العلمية، فهي في نظر المحقق الكرباسي علم مستقل بذاته، فيبحثها في الأبواب التالية: آداب الرواية، استحباب الرواية، المروي عنه، المعصومون.
وهذا العلم ليس جديدا على علماء الحديث والفقه من حيث المحتوى، ولكن الجديد فيه هو تأصيله كعلم مستقل، فإذا كان الباحث يناقش آداب الرواية والراوي، فهذه من المسائل الأخلاقية التي استقل علم الأخلاق ببحث جوانب منها، فبالتالي لا بأس أن تستقل الرواية بعلم من باب أن التخصص مدعاة لفتح أبواب علمية جديدة مفيدة للبشرية، فالرواية كما يقرر الكرباسي: “بها قوام الدين، وعليها اعتماد الأمة، فلا بد أن لا تنقطع المعارف الإلهية عن الأمة”.
باكورة الموسوعة
كما يعد علم الحديث هو باكورة العلوم الإسلامية، فان هذا العلم كان هو المدخل إلى قلب الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي للنهوض في تأسيس دائرة المعارف الحسينية (حمد) – بقلب الحروف الأولى- والكتابة في النهضة الحسينية، وبخاصة باب “الحسين في السنّة”، حتى وصلت المجلدات المطبوعةإلى 44 جزءاً.
وعلى ضوء ما ورد في هذا الجزء وبيان لحركة علم الحديث وتفريعاته من العلوم، فان المؤلف في الأجزاء التالية من هذه السلسة سيتناول موقع الإمام الحسين (ع) في السنّة الشريفة والروايات التي جاءت فيه، مع بحثها من كل جوانبها وفق معايير علم الحديث الذي اختطه لنفسه، والمنهاج الذي يراه مناسبا.
وهذا المنهاج عبّر المفتي محمد خان قادري، عن شديد إعجابه به عند قراءته النقدية للكتاب، والملحقة بالكتاب باللغة الپنجابية، حيث أكد رئيس إدارة الجامعة الإسلامية في مدينة لاهور الباكستانية، أنني: “قمت بمطالعة الجزء الأول من الحسين في السُنّة، فقد وجدته كما وصفه سماحة المؤلف مقدمة تمهيدية للدخول في صُلب الموضوع، ولكن هذا التمهيد حاز على سبق علمي موضوعي ليس له نظير، حيث تحدّث عن علوم الحديث بكل موضوعية، وأسَّسَ لعلم الحديث ستة علوم يرتكز عليها فَهْم الأحاديث الواردة عن الرسول محمد (ص) وعن آله الأطهار (ع)، وقد تمكن سماحة المؤلف من بيان معالم كل علم ومميزاته بشكل علمي، مما يمكن أن يُتّخذ هذا الكتاب جزءاً من منهج الحوزات العلمية والجامعات ذات التخصص في علوم الحديث، ولقد أبدع سماحة المؤلف في ذلك حيث أشفع كلامه بالبيان والبرهان فزاده تألّقاً، فلابد أن يكون له أثر كبير في مجال الدراسة والتحقيق”، وأبدى المفتي قادري سروره للإنتاج العلمي للكرباسي، مضيفا: “وإني بدَوري أشدّ على يد سماحته على مواصلة الدرب بهذه المنهجية الفريدة التي انتهجها، سائلا المولى عز وجل أن يُلهمه الصبر على ركوب الصعاب، فقد أثلج صدور المؤمنين في موضوعيته الحكيمة ومنهجيته الرشيدة وبالأخص في المقدمة التي خطّتها يراعه على هذا الباب، حيث فيها الجمّ الكثير من التحقيقات العلمية الرصينة”.
وأضاف المفتي قادري في بيان إلهامات النهضة الحسينية، لقد: “أصبح العراق بحسينه وعليّه وآلهما قبلة الأحرار ومهوى أفئدة المفكّرين منذ أن أسّس والده الإمام أمير المؤمنين (ع) أول عاصمة كبرى في الكوفة والتي قادت العالم الإسلامي بفكرها الوقّاد منذ القرون الأولى وحتى اليوم، فكان خلاص العراق بل وغيره على يد جهابذة من أرباب الفكر والمعرفة الذين تخرّجوا من مدرستهما”، مؤكدا في الوقت نفسه، أن: “هذه الموسوعة المباركة جاءت بارقة أمل لكل شعوب العالم لتعرف حقيقة هذا القائد العظيم الذي لم تنطفىء جذوته ولن تنطفىء ما دام للحياة نسوغ يجري في شرايينها وما دام العقل له دَور في حياة الشعوب”، وما لفت نظر الشيخ قادري أن دائرة المعارف الحسينية: “موضوعية وعلمية وبشكل حديث قلَّ نظيره إن لم يُعدم، وهذه أول موسوعة معرفيّة موضوعية تصدر في تاريخنا الحديث بل والقديم، تخصّ شخصية واحدة متعددة المعارف والمناهل”.
ولا أرى أن المفتي محمد خان قادري حاد عن جادة الحقيقة، فهي شهادة مفتي وأستاذ، فهذا الجزء كما وجدته منهاج دراسي علمي يضيف جديدا إلى المناهج الدراسية في المعاهد والجامعات الإسلامية.
الرأي الآخر للدراسات – لندن