( أشجّع إيران في جميع برامجها وخططها النووية والبحثية والتكنولوجية والصناعية، ولكني أختلف معها حول موقفها الغامض في العراق)
أنا رجل أؤمن بالنضج السياسي المتصاعد، وأحارب التكلس والتقوقع السياسي ، وكذلك أحارب التشبث في البرامج والمواقف السياسية الخاطئة بحجة أنها مقدسة كونها تعود للحزب سين، وللحركة صاد، فالسياسي الذي يؤمن بالتجديد والتصحيح، وقبول النقد والفكرة هو الأقرب لي ولقلمي، ويستحق دعمي وبدون مقابل.
لهذا علينا الإيمان بشيء مهم، فمثلما هناك أيمان بأن الطفل سيكبر وسيكون شابا ومن ثم رجلا..الخ ، والموظف البسيط سواء كان ملاحظا أو مهندسا أو حتى عاملا، فحتما هو الآخر يكبر بخبرته وبدرجته الوظيفية تماشيا مع تراكم السنين، ويفترض أن يكون السياسي هكذا أيضا ،فيجب أن يتعلم ويكبر وينضج في أداءه وعطاءه .
وحتى الكاتب والمحلل والصحفي هو الآخر عليه أن ينمو فكريا وذهنيا وعلاقاتيا، وليس هناك عيبا عندما يرمي الأفكار التي آمن بها في الشهور الماضية، أو في العام الماضي أو حتى في السنوات الماضية ليدعم أفكارا جديدة ،وتكون أكثر عقلانية واتزان وفائدة في العام الحالي ،والقضية هنا ليست انتهازية، وكذلك ليست نوعا من اللعب على الحبال، بل هي نوع من النضج الفكري والصحفي والخبروي، ولكن عندما يكون الانتقال نحو البرامج والأفكار السيئة والمريبة هنا يكون الأمر انتهازيا ولعبا على الحبال، لأن العقلاء حتما سيطرحون السؤال المنطقي:
مالذي أبهر الصحفي سين أو المحلل صاد من أن يدعم الفشل والفاشلين، فحتما أن هناك فائدة ذاتية وشخصية ،وقد تكون مادية أو وظيفية؟
والسبب في طرح هذا السؤال هي الغرابة في الانتقال، فبدلا من النضج نحو الأعلى يكون في الحالة التي طُرح من أجلها السؤال هي السقوط نحو الأسفل، وهنا يكون الصحفي والمحلل والكاتب الذي أمن بالنزول خطيرا على نفسه، وعلى المجتمع والقراء!.
فنرجو من جميع القراء الهدوء كي نتحاور حول فكرة عنوان مقالتنا لهذا اليوم، وبعيدا عن الاندفاع المذهبي والحزبي والنفعي، فعندما يكون رأس المحاور محشوا بالمسبّقات ،والقرارات المنضَدّة في فكره فسيفشل الحوار.. علما أني أصارحكم، فعندما أكتب لا أنتظر كم سيمدحني، وكم سيشتمني، فالمهم أن لا أكتب إلا عندما أكون مؤمن بالفكرة والطرح، لأني لا أنتظر الردح والتصفيق من أحد، وليس لدي طموحات انتخابية كي أقوم بعملية إحصائية كم زعل وكم فرح من مقالتي، علما أن صدري مفتوحا للنقد العاقل، والى الحوار، ولكني لن أرد على الشتامين والأميين، وقراء المانشيت، مع تقديري لجميع القراء الذين يحرصون على قراءة مقالتي ومقالة غيري حتى النهاية، وبتمعن وبتجرد، فهؤلاء هم رصيدي ورصيد غيري، وليس قراء المانشيت فهؤلاء خارج المعادلة!.
فهيا إلى الحقائق:
أولا:
الحقيقة الجغرافية:
هناك قضية لا يمكن لأكبر قوة في العالم أن تغيّرها أو تقنعنا بعدم وجودها ،وهي أن العراق بجوار إيران جغرافيا ، ونتيجة هذا التجاور أصبحت هناك وشائج دينية وتاريخية واجتماعية وسياسية وعقائدية وتجارية ومذهبية بين البلدين ،وهي ليست بزمن الشاه، ولا حتى بزمن الرئيس صدام ، وكذلك هي ليست بزمن الرئيس أحمدي نجاد، ولا حتى بزمن الرئيس بوش، بل هي ضاربة في عمق التاريخ، لهذا لا يمكن تغييرها بتوصيات من البيت الأبيض ، أو من المرجعيات السياسية والدينية التي تولدت في العراق بعد سقوط النظام العراقي…
لهذا فلقد أوصى الإسلام والرسول محمد (ص) بسابع جار، فكيف وأن إيران هي الجار الأول، وبحدود مشتركة طولها أكثر من 1200 كيلو متر، فلم يوصينا الإسلام والرسول محمد (ص) بالإمبراطوريات والقوى الكبرى كي نستقبلها ونرقص لها ، ونتحالف معها مرحليا وأبديا ، بل أوصانا بمحاربتها إن طغت، وأن أعتدت على الأرض والعِرض والدين والمعتقدات والممتلكات، وقطعا ليست هناك إمبراطوريات حميدة، فهي وعندما تحركت من وراء البحار والمحيطات وجاءت نحونا، جاءت وهي معبأة بالحقد والكراهية والبرامج الإجتثاثية لنا ولتاريخنا وثقافتنا ومعتقداتنا، وبالنتيجة يجب أن نحارب ونقاتل الولايات المتحدة ( الإمبراطورية الأميركية) في العراق، لأنها غزت واحتلت العراق زورا، وتصرفت وكأنها الآمر الناهي في هذا البلد، بل تريد البقاء فيه إلى الأبد مع مباركتها إلى تهجير أبناء البلد وملاحقتهم وقتلهم وإبادة الكفاءات العراقية، وبمختلف الاختصاصات .
ولكننا ضد إيذاء الولايات المتحدة خارج حدود العراق لأننا لسنا إرهابيين، ولسنا من عشاق القتل والجرائم، بل نحن نؤمن إيمان عميق وكامل بأن الولايات المتحدة محتلة وغازية ومجرمة في العراق، وعلينا محاربتها وبكافة الأساليب، وأسوة بالثوار في فرنسا وأسبانيا والجزائر وغيرها من البلدان، وعندما قاتلوا وقاوموا الاحتلال والمحتل.
فكيف وأن الولايات المتحدة تريد الفتك بدول أخرى مثل إيران ، وسوريا وغيرها، والسبب لأن هذه الدول ترفض الهيمنة الأميركية ، ويفترض بكل عراقي رافض للاحتلال، وبكل عراقي مقاوم للاحتلال أن يكون مع سوريا وإيران وأن يخفف من حدته مع هاتين الدولتين، وأن يؤجل خلافاته معهما، حتى وأن أختلف معهما سياسيا ،إذ أن مجرد رفضهما للهيمنة الأميركية هو دعم للرافض والمقاوم العراقي… وبالمقابل فسوريا وإيران مجبورتان على دعم المعارض والمقاوم العراقي لأن لولا مواقفهما وصمودهما لأصبحت واشنطن في أراضيهما ،وفي عواصم عربية أخرى!!
فمجرد أن نفكر أن مصيرنا واحد كبشر وكمسلمين وكجيران وكدول، هذا بحد ذاته قنبلة كبرى تهز مضاجع ومرجعيات الاحتلال، وللعلم فهم يمارسون سياسة ( فرّق تسد) مع إيران وسوريا كي لا نصل إلى حالة التفكير بأن هذه الدولة جارة ومسلمة وشقيقة، وبالتالي هي أفضل من أميركا وبريطانيا وأستراليا وغيرها!.
ثانيا:
الحقيقة السياسية:
1 ـ
فلو فكّر البعثيون على سبيل المثال ، ونقصد الذين لم تلطخ أياديهم بدماء الشعب العراقي، ولم يكونوا سببا بالقتل والهتك والملاحقة والتعذيب، لوجدوا أن إيران أفضل لهم من الولايات المتحدة ومن جميع النواحي، وأن مجرد وقوفهم إعلاميا وشعبيا وسياسيا ضد إيران هو دعم للولايات المتحدة في العراق .
فإيران ليس لديها مشكلة في التعامل مع البعثيين، و الدليل في هذا أنها تتعامل مع البعثيين السوريين الذين يحملون نفس الأفكار والإيديولوجيات، بل أن هناك علاقات مميزة بين سوريا وإيران، وتحولت أخيرا إلى علاقات إستراتيجية حسب التصريحات التي أدلى بها وزيري الدفاع في سوريا وإيران أخيرا…
ثم أن إيران لم تقم بملاحقة، وقتل وتحريم التعامل مع قياداتهم البعثية، بل أن الولايات المتحدة هي التي أمرت بقتل القيادة البعثية العليا، وهي التي سجنت ولا زالت تسجن القيادة البعثية التي كانت مسئولة في الحكم ، ناهيك أنها تلاحق القيادات الباقية.
وأن إيران لم تحل الجيش العراقي بل أن الولايات المتحدة هي التي أصرت على حل الجيش العراقي من خلال الأوامر التي نفذها الحاكم المدني الأميركي السابق بول بريمر، وبتشجيع من طارق الهاشمي وشقيقه الذي قتل بعبوة ناسفة ، وهما اللذان كانا على مقربة من بول بريمر لشؤون الجيش العراقي…
وحتى أن موضوع اجتثاث البعث هو موضوع نفذته بعض المجموعات التي لها علاقة مميزة مع إسرائيل ودوائر الولايات المتحدة، فوزير الدفاع الأميركي السابق رامسفيلد لديه تصريحات وقبل العدوان على العراق قال فيها ( حزب البعث حزب نازي، ويجب عزله ومنعه من الاستمرار و على نفس الطريقة التي عومل بها حزب هتلر في ألمانيا) .. وبعد العدوان على العراق وسقوط النظام في بغداد عاد رامسفيلد وقال ( وحزب البعث في سوريا هو الآخر حزبا نازيا ويجب القضاء عليه!!) والهدف واضح تماما كي لا يتحد حزب البعث العراقي مع حزب البعث السوري ويكونا جبهة قوية ضد الاحتلال…
وهذا يعني أن إيران لم تقم بذلك ، لذا فلو كان البعثيون يؤمنون بالتجدّد، ويسقطون من قاموسهم أنهم القادة دوما ، و يتعاملون بروح البراغماتية والتكتيك والعمل للمستقبل لذهبوا صوب إيران، خصوصا وأن القيادات البعثية العليا و الجديدة معظمها من الشيعة، أي من سكان الفرات والجنوب ، وهذا يعزز فتح ورقة جديدة معها ،خصوصا بعد زوال القيادات التي كانت جزء من الحرب ضد إيران، والتي عرضت الشعبين العراقي والإيراني إلى الويلات والعذاب ، وبهذا ستكون صفعه قوية إلى الأميركيين في العراق!…. ولكن مع من تتكلم والتخشب لا زال جاريا!!!!!
2 ــ
لو فكر العراقيون جميعا وبروح تخلو من القرارات المُسَبّقة، ومن ثم عملوا جردا عقلانيا بالدول التي تآمرت على العراق ومنذ عام 1980 ، وعام 1990 ، وعام 1991، وعام 1998 ، وعام 2003 فسوف يجدون أن إيران ضحيّة لمخططات هدفها إضعاف العراق على مراحل من أجل إنهاءه تماما، وجعله دولة بلا هيبة ولا قوة .
ففي عام 1980 صفق ودعم أكثر من نصف العرب للنظام في العراق ليستمر في الحرب ، وكانت حدودهم ومطاراتهم وموانئهم مصيدة لأي عراقي هارب من العراق، فكان يُسلّم إلى النظام العراقي ليعدم ، فكانت الخزائن العربية مفتوحة وبأوامر أميركية وغربية لصالح النظام السابق في العراق، وكانت الأسلحة المتطورة، والاتصالات ووسائل الإعلام كلها مُسخرة لخدمة النظام في العراق، فكانت طائرات الأواكس في السعودية ترسل الصور والتقارير الى بغداد 24 على 24، اما الدعم الصحفي فحدث ولا حرج وكلها وسائل ترغيبية ولكنها تحوي لمكائد ضد العراق ، وبالتالي خرج العراق مثقلا بديون كارثية ،مع مباغتته من قبل بعض العواصم الخليجية بتسديد ديون الحرب ضد إيران، ناهيك عن الإصابات الكارثية في الأرواح والممتلكات والنفوس والعقول وكله نيابة عن الأنظمة العربية، والتي عادت وتآمرت معظمها على العراق، عندما صفقت لصدام بأن يدخل الكويت .
فلقد عقد اجتماع ثلاثي بين ( صدام ، وعرفات، والملك حسين) ليقرروا تقسيم النفط العالمي ، بعد سيطرة النظام على نفط الكويت إضافة لنفط العراق، وكانت من هناك عواصم عربية تعمل جاهدة لمنع الهدنة والحل وبأوامر أميركية كي يتم ضرب قوة وجيش العراق، ولقد تم بالفعل وبمشاركة ومباركة عربية وليست إيرانية، وكانت الكارثة عام 1991 وبتحالف من 33 دولة + معظم الأنظمة العربية، ثم جاء الحصار القاتل والظالم ولمدة 13 عاما ولقد تفانت الأنظمة العربية بتطبيقه، والهدف القضاء على ما تبقى من قوة وهيبة العراق، وإنهاء المنعة عند الإنسان العراقي، ولم تكن إيران من الدول التي طبقت الحصار، بل كانت تتاجر مع العراق رسميا وسريا .
فجاء عدوان عام 2003 فشاهدنا المشاركة العربية الكارثية ،والتي لا زالت لحد الآن ضد العراق وشعب العراق، ولم يكتف هؤلاء بتحطيم العراق، بل شاركوا بتخريب العراق اجتماعيا وجغرافيا واقتصاديا وسياسيا ، فالدول العربية هي التي سهلّت ودعمت الولايات المتحدة وبريطانيا والدول التي معهما من أجل القدوم والبقاء والدعم والحماية وتوفير اللوجست والخدمات كي تبطش بالعراق، وتحتله وتشرف على تفتيته، ولم تشارك إيران مع هذه الدول ضد العراق، وحتى ولو كانت هناك لها مشاركة فهي سرية ومحدودة، وعلى العكس من المشاركة العربية الإستراتيجية والتكتيكية والمالية والإعلامية واللوجستية، وبشكل علني ولغاية يومنا هذا!!!!!.
3ــ
لو جئنا إلى إيران ومن معها ولنقل سوريا، فهي الجبهة التي لم تشارك بضرب العراق ولا بتخريب العراق ، بل فضلهما كبير على الشعب العراقي من خلال إيواء ملايين العراقيين الذين فروا من قبل نتيجة قمع وظلم النظام السابق ، وكذلك الذين فروا بعد سقوط النظام نتيجة القمع والتهجير والخطف والتي قامت به خلايا سرية أشرف على تأسيسها المحتل الأميركي وبدعم من بعض العواصم العربية، ودول أخرى لها مصلحة في بقاء العراق في دوامة العنف والدم والقتل، وأن الشماعة التي تم تعليق كل هذا عليها هي إيران وبأوامر أميركية …
فالإعلام والمال بيد أميركا وعرب أميركا فكثرت السيناريوهات والأفلام ووسائل التخدير والفبركة، لهذا فأن الخطر قد جاء من أميركا وعرب أميركا، وليس من إيران وعرب إيران، بدليل أن إيران وعرب إيران لا زالوا يضمدون بجراح العراقيين، أما أميركا وعرب أميركا فلا زالوا يفتقون بجروح العراقيين من أجل أبادتهم تماما ، فالمؤامرة على العراق أميركية انجليزية عربية ( مع تقديرنا للأنظمة العربية التي فضلت الحياد والصمت وتقديم الدعم سرا للشعب العراقي، وهي قلّة قليلة للأسف الشديد) أما الأنظمة الأخرى فهي تدعم واشنطن ولندن وإسرائيل في العراق وبشكل مباشر وغير مباشر.
4 ــ
لو عدتم إلى موضوع ضرب المفاعل النووي العراقي في عام 1981 فلم تقم إيران بضرب هذا المفاعل، علما أنها كانت على حرب مع العراق ، بل أن الطائرات الإسرائيلية جاءت وبدعم لوجستي عربي من أجل ضرب المفاعل النووي العراقي ، وأن الطائرات جاءت وعادت من خلال الأجواء الأردنية والسعودية، والهدف هو منع العراق من الاعتماد على نفسه ،وضمن مسلسل طويل هو ( تدمير العراق) وجاء على مراحل ومنذ عام 1980 حتى يومنا هذا ولا زالت هناك أنظمة عربية تمارس دورا خطيرا في العراق، وتعطل الحلول كلها في العراق من أجل فرض أمر واقع، ومن أجل إنهاء كل ما تبقى عند الإنسان العراقي، وجعله فريسة للمافيا والإجرام والمخدرات والسقوط الأخلاقي…..
خصوصا بعد أن أمرت الأنظمة التي توالي واشنطن من منع استقبال وقدوم وإقامة العراقيين، وكأنهم هم أسلحة الدمار الشامل التي نسجها خيال الرئيس بوش ، مع العلم أنهم يستقبلون الإسرائيليين على ترحاب في مطاراتهم وموانئهم وحدودهم….. لهذا فإيران لم تقم بذلك، ولم تعيد أو تمنع أي عراقي من دخول أراضيها ،وهي شهادة للتاريخ!.
ثالثا:
الحقيقة الدينية والمذهبية:
فبين العراق وإيران علاقة دينية مشتركة وقوية ومفيدة، وعلى العكس من العراق والولايات المتحدة، فهناك علاقة متشنجة في هذا الميدان، بل أن نصف الجيش الأميركي المحتل للعراق يقوم ويحمي عمليات التبشير للمسيحية وبنوعها المعمداني الإنجيلي الخطير….!!
ثم أن هناك علاقة مذهبية وتاريخية بين الشيعة في العراق والشيعة في إيران ، فنعم هناك اختلافات فيما بينهم من ناحية العرق والجغرافية والولاء الوطني، ولكنهما يلتقيان في العقائد والعلاقة المذهبية ، وأن أئمتهم ( أهل البيت عليهم السلام) مشتركة، وطموحاتهم الإيمانية والعقائدية مشتركة أيضا، وهذا يعني أن هذه العلاقة القوية العقائدية والوجدانية هي مع نسبة 67% من الشعب العراقي وهم الشيعة، ولكن هذا لا يعني أن مرجعيتهم المذهبية والوطنية واحدة، فهناك اختلاف وجدل فيما بينهما حول هذا الموضوع….
لذا فعلاقة الإنسان الإيراني مع الإنسان العراقي روحية ودينية وجغرافية ومذهبية وتاريخية، ونسب ودم في بعض الأحيان، وكل هذا مفقود بين الإنسان العراقي والقاتل والمخرّب والمحتل الأميركي الذي قدم من وراء البحار والمحيطات كي يحتل العراق وينفث فيه سمومه المختلفة!.
رابعا:
الحقيقة التاريخية والحضارية والثقافية:
هناك علاقات تاريخية وحضارية وثقافية مشتركة ومتشابكة بين العراق وإيران ، فهناك تاريخ يكاد يكون مشترك في جميع محطاته ، فنعم هناك حروب وصدامات نتيجة التوسع والقوة، والتي كانت ثقافة عصورها ، أما الحضارة الفارسية والعربية فأحدهما يكمل الآخر ، وبينهما تشابك لا يمكن فصله ، وخصوصا عندما جاء الإسلام والذي وحد الحضارتين في بوتقة واحدة ، وفي قالب واحد .
أما الثقافة فلو أبحرت فيها فستجدها مشتركة بكل شيء تقريبا، فحتى الموسيقى تجدها مشتركة، وحتى الرسوم والفنون ومدارسها فهي مشتركة ، ناهيك عن الفلكلور والتراث… وكل هذا مفقود بين العراق الحضاري والولايات المتحدة التي تأسست قبل 300 عام فقط، وعلى جماجم شعوب الهنود الحُمر .
فلو كان الأميركيون يمتلكون ذرة من الثقافة والتحضّر والرقي لما قاموا بتخريب ونهب وسلب حضارة وادي الرافدين في العراق، بل أنهم مارسوا أبشع أنواع الحقد الحضاري والبربري ولا زالوا في العراق، ويريدون ممارسة البربرية الحضارية ضد حضارة الشام، وضد الحضارة الفرعونية ،وضد حضارة فارس في إيران.
، أنهم يمتلكون حقدا حضاريا وثقافيا علينا، ولا يفرقون بين عرب وفرس، وهم كطائر النسناس ( الطاووس) فكم هو يشع بالجمال والكبرياء والقوة والأنفة على الطيور الأخرى نتيجة ألوانه وريشه المميز، ولكنه عندما ينظر إلى ساقيه الكريهتين يتحول إلى طير شرير و جارح ومخرب، وسرعان ما يذهب نحو التراب ليثير الغبار، ويطارد الطيور لشعوره بالنقص نتيجة ساقيه العاريتين البشعتين، وهكذا هي الولايات المتحدة، فعندما تشعر بأنها بلا حضارة وبلا تاريخ، و بلا مرجعية ثقافية و تاريخية تتحول إلى حيوان مفترس وجريج ،وبركان ثائر ضد الدول التي تمتلك الحضارة والمرجعية الثقافية والتاريخية، وهذا ماحدث في العراق وأفغانستان .. أنهم برابرة جُدد ،ويكرهون الحضارة والتاريخ والثقافة والإسلام!.
أين الخطر…..؟
فالحقيقة هناك خطر مبدد للحمة بين الشعب العراقي والإيراني، والخطر يتمثل بالشخصيات والجماعات وخصوصا الذين عاشوا و تدربوا في إيران، وأصبحوا بعد سقوط النظام قادة في العراق فباشروا بنسج علاقات علنية وقوية مع الدوائر الأميركية، وعلاقات سرية متقدمة مع إسرائيل ودوائرها الخاصة، فسببوا الحرج للإيرانيين، وزادوا بمشاكل إيران في العراق وفي الشارع العربي ، بل أصبح بعضهم خطرا على العراق وإيران معا ، وكان يفترض بإيران أن تبتعد عنهم وترفع يدها عنهم تماما بل تفضحهم أو تسرب ما تعرفه من ملفات إلى من يفضحهم أمام الشعب العراقي.
والخطر الثاني والمرفوض هو الإرث التاريخي عند بعض الإيرانيين ،والذي هو ليس من مسؤولية الأجيال العراقية والعربية الحديثة ، وأن هذا الإرث عند بعض الذين هم في دوائر صنع القرار الإيراني، والذين ينظرون للعراقيين نيابة عن العرب، فيتذكروا الثأر التاريخي من العرب، فيظهروه في العراق وضد العراقيين بدلا من العرب ، وهذا أمر مخيف ومحيّر، ولقد دُعم هذا التوجه من قبل ( التيار القومي الفارسي) فشجع على نمو التيار ( القومي العربي المتطرف) والذي أخذ بالعمل ضد كل ما هو إيراني في العراق ، فزاد الفجوة ونسف التلاقي ، والحل هو تطويق طموحات التيار القومي الفارسي ، ومن ثم إبعاد المسئولين الإيرانيين الذي يدورون في فلكه، ويتغذون منه عن مصدر ودوائر القرار في إيران!.
ويبقى خلافنا قائما ….!
أما خلافنا القائم مع إيران هو في العراق، لأن إيران في العراق ولن يُنكر هذا، ولكن هذا الوجود لم يكن لمصلحة العراقيين كافة ، بل لمصلحة فئات ضد فئات أخرى، وهذا ليس بمصلحة إيران، بل هي خدمة للمحتل الأميركي ،.
والخلاف الثاني … هو ما يتعلق بالأفعال والأعمال التي تقوم بها بعض الجماعات العراقية المدعومة من إيران ضد العراقيين، وضد بعض المؤسسات والتجمعات العراقية ،وهذا أيضا يخدم المحتل الأميركي ، ناهيك أن إيران لم تطرح برنامجا إعلاميا فاعلا لتوضح للشعب العراقي حقيقة موقفها في العراق ، وحقيقة ما ينسب لها من محن وجرائم وتدخلات في العراق!.
أما الخلاف الثالث… فهو يتعلق بالسياسة الإيرانية داخل العراق وفي الشارع العربي، والتي لم تكن بمستوى السياسة الدولية الناجحة والذكية، علما أن إيران تمتلك وسائل إعلام قوية، وتمتلك مؤسسات ثقافية كبيرة جدا، ناهيك أن الذين يتحدثون العربية بأعداد كبيرة في إيران ،وكل هذه العوامل يفترض أن تكون سببا في التلاقي والتحاور والعمل المشترك، وليس العكس، ومثلما نراه من شد وتحامل وغياب الحوار والتلاقي، وحتى وأن كان هناك تلاقيا فهو محصور بين جماعات ونقابات وتجمعات ومافيات عربية وعراقية لا يحترمها الشارع العربي والعراقي ، لأنها نفعية وتدور في فلك الأنظمة والحكام ودوائر المخابرات وسواء كانت دينية أو ثقافية أو إعلامية.
لهذا ننصح بالانفتاح على أكبر مساحات اجتماعية وثقافية وإعلامية وصحفية كي تتوضح الصورة، ويكون الحوار في الهواء الطلق، وليس في الفنادق خمس نجوم ، فليس من مصلحتنا العداء الدائم بين العراق وإيران، وبين العرب وإيران لأن هذا العداء والاحتقان والتوجس هو خدمة مجانية للمشروع الأميركي، والى المحافظين الجُدد، فعلينا أن نكون أدوات وعوامل الخروج من هذه الأزمة ( أزمة عدم الثقة) كي نفيد مجتمعاتنا ومنطقتنا!.
فكلما تفاهمنا مع إيران ، وعلقنا مشاكلنا واختلافنا كلما ضيقنا على المحتل الأميركي، وهذه هي الحقيقة، والتي تخاف منها أميركا، وكذلك يخاف منها عرب أميركا ،والذين هم مصدر مشاكل العرب، ومنذ أكثر من ثمانين عاما لأنهم أدوات الإمبراطوريات الاستعمارية ونتاجها وفراخها.
فالولايات المتحدة تريد الهيمنة على كافة أنحاء العراق وعلى جميع خيراته وتكون لها ولوحدها ولأبد الآبدين كي تفرض هيمنتها على المنطقة وعلى الأوربيين أنفسهم، فهم يريدون استعباد البشرية من خلال الهيمنة على الطاقة، فهم يريدون تحديد الأسعار وبمزاجهم، لهذا سوف تكون معركتهم و قريبا بل بدأت مع منظمة ( الأوبك) والتي يريدونها أن تكون في جيب أميركا وعلى غرار مجلس الأمن ،والأمم المتحدة، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، أما العراقيون فهم الأيادي العاملة الرخيصة والنواطير في الشركات الأميركية أي العبيد، وهم بذلك يريدون لسكان المنطقة كلها بنفس الهدف الذي يريدون أن يجعلوا العراقيين به…..
فلو فاز الأميركيون بخططهم في العراق، فسوف يكون مصير ومستقبل العراق كمصير دولة الفلبين بالضبط أي تكون هوية العراق هي المواخير والمخدرات وعصاباتها ، أي حكومة تعتمد على واشنطن وتلبي رغباتها، مع تفسح اجتماعي وأخلاقي مكفول بالقانون، و لا مثيل له بتاريخ العراق، مع مطاردة لكل القوى التي ترفض الهيمنة الأميركية، ومن ثم تحويل العراق إلى ممر دولي للمخدرات وتجارة الجنس الأبيض ومافيا الجريمة ، وحينها سيكون المجتمع العراقي كالمجتمع الهندي أغلبية فقيرة ومسحوقة مقابل أقلية قليلة تهيمن على كل شيء بأوامر أميركية!
أما لو نجح العراقيون وبمختلف أطيافهم من ترتيب أوراقهم ومستقبلهم مع الإيرانيين وضمن اتفاقيات جانبية دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية، فسوف تكون الخسائر طفيفة سياسيا واجتماعيا ودينيا واقتصاديا وتاريخيا، وبالتالي سيتم المحافظة على العراق وهويته، لأنها معركة أهله العراقيين العرب!.
ويبقى خلافنا وعلى المستوى الشخصي قائما مع إيران حول الدور الإيراني في العراقي، والذي يكتنفه الغموض، أما حول برنامجها النووي ،وقفزاتها العسكرية والتكنولوجية والسياسية، فنحن سعداء بها ونشجعها وندافع عنها، وأن إيران من حقها أن يكون عندها برنامجا نوويا ،وصناعات عملاقة وأسوة بأي دولة وصلت لذلك أو تريد الوصول إلى هذا الطموح ، بشرط أن يكون للردع الإستراتيجي، وتطوير الخطط التنموية وبناء العلم والعلماء والمجتمع، وليس للانتقام والحروب والهيمنة!.
أما طموحات الدول ومنها إيران وحتى العراق فهي طموحات عادية في زمن غريب ويعيش على المباغتة والهزات الفورية!.
مركز الشرق للبحوث والدراسات ـ أوربا
30/5/2008