د. مازن حمدونه
تكتب أمواج البحر سطوراً في بطونها كلمات لا مقروءة .. تسمع ترانيم البحر كعزف لا تنضب وصله ولا تكل في سلم وسنفونية تمتد أحيانا وتقصر في أحيان .. تعلو وتخفت ولكنها تبقى تعبر عن دفقات من مفاهيم ما بين الرومانسية والكلاسيكية ..وأحيان أخرى فقدت توصيفها كراريس اهل اللحن والطرب .
في إحدى أركان المشهد وجدت صخرة وقد كست وجهها فستان اخضر وبرزت منه عينتان ووجنتان ومبسم كل ما فيها يضحك وتتخفى من تحت حلة الماء في حياء الصبية في باكورة بلوغها الجديد .. تسمع ترانيم وخرير الماء وهو ينسدل كعين الضبي في نقاء الصفوة .. ترى تسمع خرير الماء من على وجه الصخرة الناعمة في انسياب كغسول الماء المقدس في حلة معابد المؤمنين .. يتجسد المشهد في انتاج ديمومة الحياة .
من على وجه تلك الصخرة تشخص غطاء الرأس المزركش بالياقوت والمرجان وقد نبتت بارادة الهية من الصخر الصلد ،وتتجذر على وجه الصخرة في تحد واضح للموت رغم رقصات الموج المتغيرة ما بين الفرح والغضب الهادر!!.
على بقعة من مسقط جداول النور الساطع على صفحة الماء تعكس وجهها وتفضح كل الثنايا المغلفة ..ترى صفحة براقة تكاد تجذبك كمرآة ..يبهرك نصوعها ..تراقب المشهد في خشوع .
في عمق البحر تجد الأسماك تغوص في الأعماق تموج بزعانفها كالمراكب التي تحدت هدير الامواج ؛رغم انها خلقت من أشواك .
في عمق الغسق تعكس حلة الالوان المرصعة بهاءها تجمع في وصل مدهش سقوف مابين الماء والهواء وفضاء الغطاء .. جداره السفلي فضاء ملون كثوب مجدلي مزركش بألوان ناصعة ما بين الأحمر والأرجواني والأزرق والأخضر .. تلامس سطح الماء المتلألئ .. ترى في الشفق غباراً كونياً لكنه لا يحجب عنك تفاصيل المشهد .. يدهوك بلا تكلف ان تدقق التفاصيل ..
وفي رحاب المشهد الكوني …
تستيقظ أحلامك الغسقية ..
في سقف العمق تشاهد وتراقب صوامع وقد انتشرت على سفوح فواصل البحر بالسحب ، مساحة ممتدة بالكاد تميز صوامع ، تراقب الموج والسماء والشاطئ والتراب وأعماق البحر .. صوامع وقد توعدت الحياة بالموت .. وفي كل لحظة تحرك اذرع الموت …
على جدار الامل والالم ترى حجاباً للصورة يربض على فواصل الوطن وقد شطرته ميناء أسدود التي حجبت تفاصيل مدينتي وبعض من ملامح وطني الجريح .. من خلف أسوارهم ترقد مدينتي تصرخ في وجه البحر تستغيث للقادم من خلف الأمواج …
انا في لحظة قررت ان اعيد وصال الوطن من خلف أسوارهم وقلاعهم المصمتة بالاسمنت .. بالحديد .. بالنار فغصت بقدماي علها تعيد لي حياة نغصها أنين الوطن .. تمر الأمواج من حولي .. تقطرني قطرات الماء من على شاطئ بحر غزة .. علها تلامس وتجوب شواطئ مدينتي فتنقل لها عهدى وقسمي .. وتجدد لها بيعتي ..ولعل امواج البحر القادم من على بوابة مدينتي تعبق نسيمها تدفعه في صدري، تعمر من حياتي علني أرى المشهد عن قرب في الزمن القادم ..!..
على شاطئ بحر غزة تراقب …
يمر عليك بعض ممن هربوا من جحيم الألم اليومي تحت وطأة الحصار الطاحن تجد أطفالا يلهون قصراً .. يضحكون سخرية على أقدارهم .. لا تجمع أحلامهم سوى رمال البحر المبللة بماء البحر حين يجوب الشاطئ .. يمسح رسومات خطتها أصابعهم الطرية ، على كراريس أحلامهم ، من على فسحة التراب المبلل ..
تراهم يصنعون قصورا من كومة الرمال الممزوج بماء البحر .. يشيدون جدران قصورهم بهمة ، قبل ان تغتالها أمواج البحر القادم خلسة من خلف ظهورهم .. أوصدوا ظهورهم لتلك الأمواج الغادرة في تحدٍ لا تثنيه عزائم تلك البقعة من الماء !!
الأطفال بطباعهم يفرضون عليك ان تدرك أحلامهم بلا تحفظ ..بلا وسطاء .. مناهج تعبيراتهم لا تحتاج منك سوى ان تفهم سريرتهم .. سلوكهم .. تشاهد الفرح على وجوهم حين يلامس الفرح وجدانهم فلن تعجز عن تفسير سر تلك البهجة .. تسمع قهقهاتهم حين يشتد عليهم الفرح .
هم لا يخفون ملامح أفراحهم وأحزانهم .. تعبيراتهم كتلك الصفحة المصقولة التي عكستها صفحة الماء كالمرآة .
وفي مسيرة تغلغل المشهد …
على شاطئ بحر غزة ذهبت أفراح أطفالنا تحت هدير الأمواج المتربصة في طلاسم لا تنتهي حين تباغت تلك الأمواج وتنتهك بوابات قصورهم الرملية وتحول تلك القصور إلى أشلاء ..
تجوب المياه في مد لتخترق حرمات الغرف والشرفات .. وفي جزر لتسوى الجدار بالتراب في عبور كالبرق حين تنتهك فضاء بيوت الفقراء وتحول ظلمة المكان الى وهيج الظهيرة ..
يقف الأطفال .. يترنحون من شدة التعب .. يجبلهم الغيظ فيركلون الموج بأقدامهم .. ويطاردون الموج الهارب من المكان فيصفعوا وجنات الموج ..ويمضوا في وسط زحمة الأمواج ..
في كل مرة يستوقفني السؤال والدهشة والشك !!
لم كل أطفال فلسطين يبكون بلا دموع ؟! يفرحون كما لو أنهم لا يفرحون ؟!
كل ما يصدر عنهم من سلوك تراه كما لو كان محنطاً في وعاء مضغوط من شدة الكرب !!
انا لا يحزنني الحزن ولكن تؤرق جفوني غياب التفسير ..وتنتاب حالي مشهد المستقبل الواعد المحمل بالحزن والأسى والضياع المتسلل من رحم المعاناة كنسيج الخلايا في صيرورة او نواة ..
ترى الأطفال يمرون عليك بلا همسات ولا لمسات ..نسيم بحر غزة يشفي السقيم .. ورغم هذا يمرون عليك وتشعر كما لو أنهم في رحلة بلا هدف ..كالقارب بلا قبطان ..
والمحن لا تنتهي صوب محطة .. وتتلقفك إشارات الطرقات الموصدة على زوايا الطرقات كلوحات الشؤم ..
مر علي وانا على ارقب المشهد شبح من أشباح الموت .. ممن صنعوا الموت .. قدموا لنا وعودا وعهودا ورقية نرجسية ..
حطموا جماجم أحلامنا .. هم قرروا تحطيم قلاع الفساد .. وعجبا تراهم وقد شيدوا مدارسا لا تحسن انتاجا غير الفساد !!
قرروا ان يشيدوا مدارس العقيدة على أطلال الهاربون .. فتسلقوا الجدار وأصبحت مخاريز ..ومعاقل نفي وسراديب للظلام .. وظفوا أحقادهم في تشريح الأحياء على أسرة الظلم والانتقام بمشرط ومطرقة .. وتناسوا صراخ واستجداء الجوعى في الطرقات ..
قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه “لو تعثرت بغلة في العراق سأسال عنها يوم القيامة لما لم امهد لها الطريق ” !! ترى هل الأمر يحتاج إلى تأويل جديد للنص ؟ قد يكون وقد تكون المساءلة اقتصرت على الحيوان بالتخصيص ولا مكان للإنسان في تلك المقولة !!
آه يا وطني وقد ارقتنى طموحات المبجلين .. الموتورين .
فمنهم من كان يسكر على أوجاعي وعلى عتبات آلامي!! مزقوا أحلامي واخزون بقروا بطون أطفالي الجوعى .. وفي كل مشهد نرى اهل العمامة وقد لاكوا بلسانهم خطابات وشعارات سقط القناع عنها وفضحت منابرهم .. حولوا الوطن الى رهينة بلا حساب !! حولوا الوطن الى مقبرة لاحلام وامال اطفالي وقالوا : صبرا .. صمودا .. وفي خاتمة الرحلة اننا هنا متربعون وسنرثي حالكم واعذروا محنتكم ان كنتم محاصرين !!
من يؤلمه الجوع لا يؤلمه شروق الحزن عليه مع الفجر وفي باكورة الصبح هى أصبحت جزءا من قبلته .. حتى المؤمنون ما برحت أفراحهم وتمضي تحت ظلال السهد .. يترققون أفئدة الناس في وجلٍ والأسى عامر في قلوبهم .. والبعض ساهرون على جز رقبة الدين على مذبح القدسية والنرجسية الدينية بلا إيمان !!
فهم أعادوا للتاريخ أمجاده فأنتجوا عولمة الدين بحلة المتبرج الماجن لعقيدة بلا معتقد !!!…