مع بداية العقد الثامن من القرن الماضي بدأت الصين بهدوء تخرج من الجمود الذي فرضته على نفسها وتتعامل بواقعية مع اقتصاد وتكنولوجيا العالم الرأسمالي المتطور فاعتمدت سياسة خارجية امتازت بالثبات والهدوء وابتعدت عن إخضاع سياستها لمتغيرات الحياة السياسية الدولية خصوصا ما تفرضه الخيارات الطارئة على صعيد الأمن الدولي , لذلك سعت إلى تطوير علاقاتها مع مختلف البلدان على أساس عادل من المساواة والتعايش السلمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وانطلاقا من مبادئ الحزب الشيوعي الحاكم فيها سعت الصين إلى تطوير الصداقة والرفاه الاقتصادي للشعوب وهي لذلك تعاملت مع كل أزمة من الأزمات العالمية وفق معطياتها وفي إطار مصالحها الداخلية وعلاقاتها الدولية ووفق ذلك فقد سعت لبناء علاقات مؤثرة في المجتمع الدولي وخصوصا مع البلدان النامية أو بلدان العالم الثالث , لذلك تركز دعمها من خلال الجانب السياسي فقط لحركات التحرر مما فسح المجال للولايات المتحدة الأمريكية في التغلغل العسكري بشكل كبير والتأثير فـي استقرار الدول النامية .
لقد سعت الصين إلى أن لا تكون بديلا عن الاتحاد السوفيتي ” السابق ” فأدت سياستها الخارجية والتي تتصف بالهشاشة في الموقف انطلاقا من مصالحها الداخلية إلى إضعاف موقفها الدولي في بعض الأحيان , فعلى الرغم من السعي المتبادل من الطرفين إلى تطوير علاقاتها والانفتاح الاقتصادي مع القيادة العراقية الوطنية إلا أنها لم تتمكن من اتخاذ موقف صلب وحاسم يتناسب مع ثقلها السياسي في المنظمة الدولية من العدوان الوحشي الأمريكي على القطر خلال العدوان الأول بعد مشكلة الكويت وما ترتب عليه من حصار ظالم على الشعب العراقي أو الغزو الغاشم عام 2003 في حين استطاعت أن تقف إلى جانب روسيا في التعامل مع المعطيات المعلنة للسياسة الأمريكية في مسألة تطوير المفاعل النووي الفارسي للأغراض العسكرية أو المدنية وتطوير أسلحتها الهجومية في الوقت الذي عملت إدارة الولايات المتحدة الأمريكية على إزالة اكبر قوة عربية إقليمية من الممكن أن تتصدى لأي عدوان فارسي بعد عدوانها القذر على العراق , بمعنى أن إدارة بوش في تعاملها مع القوى الإقليمية قد عطلت القوة العسكرية القتالية العراقية وأخرجته عن دائرة أي صراع ممكن أن يحدث في المنطقة من خلال الحصار الذي استمر أكثر من ثلاثة عشر سنة ثم العدوان وحل المؤسسة العسكرية العراقية مما لا يترك سببا للفرس إلى إرهاق ميزانية بلادهم التي بانت عليها عوامل الضعف والاضمحلال خصوصا بعد اقتراب احتياطيهم النفطي من النفاذ ومع ذلك نجد إن للحكومة الصينية موقف داعم لسياسة تطوير القدرات العسكرية الهجومية منها والنووية الفارسية .
لقد ساعدت الحكومات العربية في بلورة هذا الموقف الصيني من القضايا العربية خصوصا من خلال ابتعادها عن تطوير علاقاتها وتوسيعها مع الصين بعد هذا الكم الهائل من التكنولوجيا الصينية المتطورة التي تعتبر رخيصة وتنافسية ومناسبة بالقياس إلى ما يقابلها من التكنولوجيا الغربية أو اليابانية باستثناء بعض الاستثمارات البسيطة في هذا القطر أو ذاك وصفقة منظومة الصواريخ اليتيمة التي عقدتها مع المملكة العربية السعودية عام 1990 مما تسبب في فتور موقفها من قضايانا المصيرية في المحافل الدولية في الوقت الذي تحاول فيه الصين الابتعاد عن الانحياز إلى سياسة الولايات المتحدة الأمريكية كما هو حال الدول الأوربية باستثناء موقف فرنسا المعارض لأمريكا قبل أن يتسلم نيكولا ساركوزي مفاتيح قصر الاليزيه , على الرغم من إن السياسة الصينية اتسمت بالميل للتعاون مع البلدان العربية لتنمية الاتجاه المعادي للامبريالية مع تطوير علاقاتها التجارية والزراعية والاقتصادية والصناعية فقد بذلت الصين جهدا مستمرا بهدف إنضاج موقف عربي ثابت مناهض لمختلف أشكال الهيمنة لكنها لم تستطع تحقيق هذا الهدف المعقد , لان الاستقلال السياسي والاقتصادي للبلدان العربية لم تنضج ظروفه الموضوعية بعد من ناحية ولأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تشكل حائلا ومانعا مهما بوجه أي تعاون يمكن أن يتم بين العرب وبين غيرها ” كما كانت سياستها قائمة على فرض جدار حاجز يمنع من تمدد الاتحاد السوفيتي السابق إلى الجنوب ” لما يمتلك الوطن العربي من كميات هائلة من الاحتياطي النفط العالمي الذي يمثل أكثر من ثلثيه والذي يمثل عصب الاقتصاد العالمي .
لقد أدى قصور النظر لدى الحكومات العربية من الصين كقوة عالمية وكدولة عظمى لها وزنها وتأثيرها في السياسة الدولية إلى انسحابها أو تراجعها عن قضايا امتنا المصيرية كالقضية العراقية وقضية فلسطين ومشكلة احتلال الصومال ومشاكل جنوب السودان وغيرها إلى غيابها التام عن التدخل في المشكلة اللبنانية رغم قدرتها على لعب دور متميز وحاسم لصالح قضايانا ” على اقل تقدير التأثير إيجابا على الفرس الذين يتمددون بما يؤثر على موازين القوى خصوصا في العراق من خلال الضغط على الأحزاب الطائفية الشعوبية لآل الحكيم ولبنان من خلال حزب حسن نصر الله ” في الوقت الذي أصبحت الساحة اللبنانية بودقة مختبر تجارب للمصالح العالمية فقد حاولت الصين تحسين موقفها من الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلالها لكسر جمود علاقاتها مع الدول الرأسمالية الصناعية بهدف رفع القيود الاقتصادية والتكنولوجية التي فرضت على مبادلاتها التجارية مع الدول الغربية لإدراكها التام بان العقود المقبلة ستشهد حالة من الصراع المحموم على مصادر إنتاج الطاقة , لذلك حاولت الصين أن تظهر كمن يمسك العصا من الوسط ففي الوقت الذي تدرك فيه سيطرة أمريكا على القرار السياسي العالمي وبناءا على مصالحها حاولت تجنب الاصطدام بها , كما إن ما يحمل قادتها من أفكار تحتم عليهم أن يعطوا انطباع بأنها تقف إلى جانب الدول والحركات والمنظمات المناهضة للعدوان الامبريالي الأمريكي , وهذا الموقف المتباين هو نتاج طبيعي يعكس صورة الصراع الدولي الراهن المطبوع بالأزمات الاقتصادية والفوضى التي خلقتها أمريكا بعد غزوها لأفغانستان والعراق للسيطرة على مفاصل العالم الحيوية .
باعتقادي إن أكثر تفسير يصلح لتبرير تذبذب السياسة الصينية هو عدم وجود مصالح إستراتيجية حيوية ثابتة لها في المنطقة العربية في الوقت الذي سعى الفرس إلى تطوير علاقاتهم معها وخصوصا في مجال شراء الخبرة والتكنولوجيا النووية الصينية والروسية خصوصا إذا لاحظنا ضعف قدراتها العسكرية بالقياس إلى القدرة التكنولوجية العسكرية الغربية المتطورة التي تمنعها من اتخاذ موقف حسم عسكري وعندما تتحول الأزمات من الإطار السياسي إلى الإطار العسكري خصوصا في المناطق البعيدة عنها جغرافيا مع مراعاة إيمان نظامها السياسي بان فرص قيام سلام عالمي دائم قائم على التعايش وعلى التنافس الاقتصادي اكبر .