د. مضاوي الرشيد
منذ أن اندثرت التعددية الاعلامية العربية ومصادر تمويلها التي ولت مع أفول محاور عربية قديمة وجد الاعلام السعودي الممول ـ إما مباشرة من خزينة الدولة أو من جيوب الأمراء الرسميين أو غير الرسميين ـ نفسه سيد الموقف، وباستثناء تجربة خاطفة تحت راية قناة الجزيرة القطرية التي انتهت صيف العام المنصرم باتفاقية أنهت التعاطي مع الشأن السعودي من منظور آخر لذلك المتبني رسمياًً في السعودية، نقف اليوم وجهاً لوجه أمام الحقبة الاعلامية السعودية بلا منازع. لا بد لنا أن نقيم هذا الاعلام ونحدد تأثيره علي العالم العربي من خلال سياساته المتناقضة والهادفة الي تفتيت هذا العالم من الداخل. وإن كانت الهجمة الأمريكية علي المنطقة العربية والتي بدأت بالعراق أمراً خارجياً يقاومه من يقاومه علي طريقته الخاصة إلا أن العالم العربي المتلقي لخطاب وصور الاعلام السعودي فاقد للمناعة والقدرة علي المقاومة بانعدام وسائل إعلامية قوية التمويل والخطاب وقادرة علي التصدي والتحدي بنفس الأسلوب الذي يتبعه الإعلام السعودي. هناك أربعة محاور مدمرة ظهرت بوضوح للقارئ والمشاهد والمستمع لما تنشره الوسائل الاعلامية السعودية الموجهة للعالم العربي وليس يهمنا هنا الاعلام المحلي المنحسر في عصر الفضائيات والعولمة. المحور الأول ظهر بشكل واضح خلال أيام الأزمة اللبنانية الحالية حيث تصدرت التعليقات الطائفية التحريضية شاشات الاعلام السعودي، وانبري المراسلون والمذيعون والمعلقون يفككون طلاسم الوضع اللبناني المعقد والمتشابك، حريصين علي إرجاعه إلي جذور مذهبية وطائفية، ومهما حاول البعض توسيع دائرة الحوار والنقاش والابتعاد عن محور التحريض وبث سموم الفتنة يعود المذيع أو مقدمو البرامج وكاتبو السطور الي موضوعهم المتفق عليه مسبقاً. من تابع الاعلام السعودي خلال الأيام السابقة لا بد أن يستنتج أن هناك حرب إبادة شاملة لأهل السنة والجماعة الذين دخلوا مرحلة اللطمية والمظلومية تماماً كما سبقهم اليها الشيعة في مراحل سابقة، ولم يكتف هذا الإعلام بذلك بل راح يعمل جاهداً علي اسقاط الطوائف والمذاهب علي خارطة لبنان ومدنه وقراه، بعضها جاء باللون الأحمر وبعضها بالأخضر والآخر بالأسود ليبين أماكن الصراع الحالية والمستقبلية وكأنه لا يكتفي بنقل الأحداث العنيفة بل يروج لبؤر قد تشتعل في المستقبل القريب. خلط هذا الإعلام بين الحدث وتحليله وما يطمح له الممول السعودي. ولكننا نعتقد أن هذه المحاولة الاعلامية الفاشلة قد أسقطتها السرعة التي تم فيها الوصول إلي اتفاق علي الخطوط العريضة للحوار اللبناني ـ اللبناني والتي ستتبلور في الدوحة. ستكون تداعيات الطائفية والمذهبية مقيتة ليس فقط علي الشارع اللبناني بل علي العالم العربي بأكمله إن لم تتوقف الآلة الاعلامية السعودية عن دورها المشبوه. المحور الثاني هو عدم قدرة السعودية إعلاما وقيادة عن الابتعاد ولو قليلاًًً عن المخطط الأمريكي للمنطقة والترويج لهذا المخطط من خلال وسائل الاعلام، وبما أن الخطاب الأمريكي يعتبر أن أي معارضة لمشروعه هي إرهاب وتطرف فكذلك هو حال الاعلام السعودي الذي قتل في النفسية العربية حتي الحلم بالمقاومة ناهيك عن المقاومة ذاتها، وهنا لا نقصد العنف والقتل وإنما نقصد حالة الاستسلام التي تروج لها مصادر الاعلام السعودي والقبول بالأمر الواقع، وكل ما يستنطق المشروع الأمريكي ويشكك في جدواه ونجاحه نراه يحارب ويُقتل حتي وإن كان كلمة حرة أو اشارة ايحائية لا يفهمها الاّ اللبيب والمتيقظ والعالم بمسارات التاريخ والتحولات الفكرية والسياسية والاجتماعية. المحور الثالث لعملية التدمير الاعلامي السعودي الموجه الي العالم العربي ينطلق من سياسة التعرية والخلاعة والرقص المجون التي تتبناها بعض القنوات المملوكة من قبل الامراء السعوديين والذين يوجهون ذبذباتها الي أكبر شريحة اجتماعية في العالم العربي الا وهي الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة. يتلقي هؤلاء الفنون الاستهلاكية والطرب الماجن الممتزج بالابتذال وربما هناك علاقة حميمة بين الترويج للبرامج الساقطة والفن المبتذل وبين ارتفاع معدلات الاعتداء الجنسي علي المرأة والتحرش بالأطفال والعنف الأسري وحالات الطلاق المرتفعة التي تعاني منها السعودية أكثر من غيرها من الدول في المنطقة. انها المرة الأولي في تاريخ العرب التي يجد فيها المشاهد نفسه وجهاً لوجه أمام حالة انفصام اجتماعي وتناقضات نفسية حيث يعيش المرء في ما يسمي مجتمع الفضيلة محاطاًً بقيود ثقافية ودينية تحرم عليه الانغماس في الاباحية بينما هو يتلقي صوراً وايحاءات مفرطة في شهوانيتها. نحن هنا لا نعترض علي الفن واللهو والموسيقي ولكننا نحذر من قدرة هذا الاعلام علي ترسيخ انفصام في الشخصية والهوية نتيجة التناقض بين حلم الشاشات وحقائق الواقع المجتمعي للوطن العربي. وكل هذا يصدر من قيادة حرصت علي أنها تمثل الورع والتقوي. المحور الرابع المدمر في الاعلام السعودي هو تصويره لدور المرأة في المجتمع والذي يتأرجح بين تمويل الاباحية من جهة وتمويل العفة والطهارة من جهة أخري. البرامج الممولة سعودياً والمتعاطية بالشأن النسوي تمزج بين دعايات التجميل والعناية بالجسد والبشرة مستحضرة شرحات الخيار والأفوكادو من جهة، ومن ناحية أخري تستحضر العفة والفضيلة في دعايات أدوات التنظيف المنزلي. فالراقصة المتباهية بشعرها الأسود الطويل لا تنفصل عن بنت جنسها الأخري المحجبة والمنهمكة بتنظيف قعر المرحاض مستعملة آخر انتاجات المواد القاتلة للبكتريا والحشرات. لا يفصل الأولي عن الثانية سوي ضغط الأصبع علي أزرار الريموت كنترول، كلتاهما تتصدران شاشات الإعلام السعودي بصوره ورسائله المتناقضة. يسترخي المشاهد العربي أمام هذه التناقضات. طبعاً له أن يختار بين الأولي والثانية ولكن هل هو بالفعل يملك حرية الاختيار في حقبة تاريخية أهم ملامحها استفراد المال السعودي والخط الاعلامي المرتبط به بالساحة الاعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة؟ لا بد لنا ان نتساءل لماذا اختار ممولو الاعلام السعودي خط التناقضات؟ هل هو الرغبة في الثراء الناتج عن ثورة الاتصالات الحديثة؟ أم هل هو فسق ومجون ونعرات طائفية واسترخاء في أحضان المشاريع الأمريكية؟ هل هو محاربة للتطرف الاسلامي كما يسمونه من خلال الانغماس في الاباحية والشهوات التي تصرف الشباب عن الانخراط في مشاريع أبعد من الذات وشهواتها والجسد ورغباته؟ تناقضات الاعلام السعودي الممول بطريقة مباشرة من قبل أشخاص داخل القيادة السعودية خطر علي المجتمعات العربية سيفككها من الداخل ويقوض السلم الاجتماعي في كثير من المناطق. انه اعلام انتجته أموال النفط وليس الباع الطويل في العمل الاعلامي وتراكم الخبرات والتجربة والرؤية المستقلة لحاضر العرب ومستقبلهم ومحنهم المتراكمة. الصراخ الطائفي وتبني مشاريع همجية قادمة من الخارج تستهدف أمن المنطقة وتركيبتها الاجتماعية وحقبات التعايش السلمي بين فئاتها المختلفة لن تظل موجهة الي خارج الحدود السعودية بل ستنقلب علي السعودية ذاتها والتي طالما حرص الخطاب الرسمي السعودي علي تصويرها وكأنها وحدة متجانسة تسبح بحمد القيادة ونعمتها. الاختلاف والتعددية وتسييسهما عند الحاجة من الأمور السهلة التي تنذر بعواقب وخيمة لن تنجو منها السعودية بسهولة أو دول الجوار التي تحتضن محطات الاعلام السعودي كونها أكثر انفتاحاًً من القاعدة السعودية الممولة. بغياب التعددية الاعلامية العربية ـ ما عدا تجارب قليلة حاولت السعودية إسكاتها تماماًَ كما حصل لتجربة الجزيرة حينما تعاطت مع الشأن السعودي الداخلي بشيء من الحرية ومن ثمة تم الغاء المشروع ـ نجد المشاهد والقارئ العربي محاصراً بإعلام سعودي يتبني محاور قاتلة تنذر إما بموت بطيء أو تنويم دائم أو أسوأ من ذلك بكثير: انفصام شخصي واجتماعي وقتال طائفي مذهبي طويل الأمد.
ہ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية