قال المفكر والشاعر السوري ادونيس إن القرآن كتاب ثقافي وأنه يجب تخطي النظر إليه ككتاب أوامر ونواهٍ، وكتاب شرع. وانتقد ادونيس الحجاب وأشار إلى تركيزه نقاط الإغراء في العينين والشفتين وبالتالي فهو أشد فتنة من الانكشاف. وأكد أدونيس عدم وجود نص ديني قاطع في قضية الحجاب.
واعتبر ادونيس في الحوار الذي أجراه معه الصحفي شبوب أبو طالب لصحيفة “العرب” القطرية ان ارتداء الفتيات والنساء المسلمات للحجاب يأتي محصلة لضغوط مختلفة عليها، ولا تتجسد فيه الحرية بشكل تام.
وأضاف “إذا كان الاختيار حراً فأفضل أن لا تحتجب المرأة، وذلك يخدم التساوق مع الواقع الحالي، فالبشرية تسير نحو الكشف والعري مع النفس والآخر، وبالتالي فتحرر المرأة سيكون ضمن هذا التوجه”.
وفيما يلي نص الحوار
أثرتم الانتباه بحديثكم عن الحجاب. كيف تلخصون نظرتكم للموضوع؟
– أولا لا يوجد نص ديني قاطع في قضية الحجاب، والأحكام التي وضعت في هذا الشأن كانت لاحقة، بما يفيد إمكانية نقاشها وتفنيدها، هذا من الناحية الدينية، أما من حيث اللباس كلباس، فلباس الرأس هو جزء من لباس الجسم، وقد كان موجوداً في القديم، وبالتالي فالحجاب سابق على الإسلام، كما أنه رداء يُرتدى لدواعي الزينة، إذ إنه يساعد على “تركيز” نقاط الإغراء في العينين والشفتين.
إن المرأة حينما تفعل ذلك فهي تركّز نظرة الرجل في موضع ما، وتجعل الرجل خاضعاً لإغواء شديد، وهكذا يصبح الحجاب فتنة من حيث يراد له تغطية الفتنة. النقطة الثانية، إن اعتراضي على الحجاب يأتي في سياق رفضه إن كان إجباراً، أما إن كان اختياراً حراً فلا نستطيع الاعتراض عليه، لكننا نستطيع التأمل فيه: هل هو اختيار حر فعلا؟ أم أنه اختيار فرضته ظروف اجتماعية وسياسية.. وأنا أميل إلى اعتبار اختيار الحجاب محصلة لضغوط مختلفة عليها، ولا تتجسد فيه الحرية بشكل تام.
قلت أيضا إن النقاش حول الحجاب هو تغطية لقضية المرأة. كيف ذلك؟
– لقد قلت: إن اللهو بالكلام عن الحجاب قد يصبح هو الآخر حجاباً على الحقيقة، ويلهينا عن بحث القضايا الأساسية للمرأة.
لنفرض أن الاختيار كان حراً. ما حجم الخدمة التي سيقدمها هذا التوجه للمجتمع؟
– إذا كان الاختيار حراً فأفضل أن لا تحتجب المرأة، وذلك يخدم التساوق مع الواقع الحالي، فالبشرية تسير نحو الكشف والعري مع النفس والآخر، وبالتالي فتحرر المرأة سيكون ضمن هذا التوجه.
لنتحدث عن قولك بأن القرآن كتاب ثقافي، ما معنى هذا؟
– يؤخذ القرآن إجمالاً لدى المسلمين ككتاب أوامر ونواهٍ، وكتاب شرع، لكننا يجب أن نتخطى هذه النظرة، ونرى القرآن ككتاب ثقافي، فهو خلاصة ثقافية للثقافات القديمة، فقد تأثر بالتوراة وشخص المسيح والثقافة اليونانية والآرامية.. خلاصة ثقافية لمرحلة كاملة، وهذا ما نهمله.
هل من المفروض الآن أن ندرسه ككتاب ثقافي؟
– يجب ذلك، ولكن المتدينون يعتبرونه شرعاً وحسب.
ولكن، في حال دراسة القرآن كإبداع ثقافي، فسيجري عليه ما يجري على الإبداعات الأخرى، فتتحدد صلاحيته الزمانية، ناهيك عن إخضاعه للنقد الذي يختص بالإبداع البشري..لا الكلام الإلهي؟
– ولكن كيف يجيز المتدينون لأنفسهم قراءة القرآن كتشريع وحسب؟! يجب أن لا يقرؤوه من الأصل.. يجب أن يوضع في محل التقديس في القلب أو الصدر أو الرف وينتهي التعامل معه أصلاً.
هم يقولون إن هذا هو السبيل للحفاظ على قدسيته؟
– القدسية ليست في غلق النقاش حوله، واعتباره عالماً مغلقاً، بل في الكلام عليه وتفتيق دلالاته ومعانيه.
هل تتصور القرآن حاملاً لدلالات جمالية؟
– بالطبع هو حامل للشيء الكثير منها، ولكن يجب أن تربط دلالاته الجمالية بالتاريخ والاجتماع، فمجرد نزول القرآن على مدى 22 سنة فهذا يعني أن هنالك بعداً تاريخياً لهذا النص، ولولا ذلك لنزل دفعة واحدة، ولاختفى أسلوب الناسخ والمنسوخ.
هناك من يقول بأن فكرة إجابة القرآن على كل التساؤلات تغلق الباب على العقل، وتحيله إلى التقاعد، فما فائدة التفكير وكل شيء في القرآن؟
– ليس النص هو الذي يشل التفكير، بل طريقة تعاملنا مع النص. فالعقل هو الذي يشل نفسه في النهاية.
كيف نوائم بنظرتك للقرآن كإبداع جمالي، وقولك بأنه قضى على الحقيقة الشعرية واختص لنفسه بكل حقيقة وصادر الإبداع..هل صادر هذا الكتاب المحكم الجميل الإبداع من حياة الناس؟
– لقد قلت كلامي وصفاً لا تقويماً، فالقرآن بطبيعته كوحي منزل وخاتم للرسالات وبطبيعة ناقله كخاتم للأنبياء، فهو على رأي المؤمنين خاتمة للحقائق، وهذا لا يتناقض مع فكرة أن تكون خاتمة الحقائق قد نزلت في ثوب بياني جميل.
ألم تقض “خاتمة الحقائق” على الإبداع كما قلت؟
– هي لم تقض، ولكن تأويلها وتعميمها وتحويلها لشرع هو الذي عرقل حرية التفكير، ليس النص من فعل ذلك ولكنها الممارسة والذين ادعوا الائتمان على القرآن وادعوا حمايته.
هل تقول إن القرآن نص جميل له محمولات دينية وجمالية، ولكن من حملها عرقل الإبداع؟
– في الحقيقة هؤلاء أساؤوا فهم القرآن، فالنص مهما كان جميلا فهو يصغر في العقول الصغيرة! وزّع القرآن على مجموعة من العقول المتفاوتة، وسيأخذ هذا النص شكل كل عقل تعامل معه، لأننا نرى القرآن من خلال العقول التي تعاملت معه، إن النص يكبر مع العقول الكبيرة ويصغر مع الصغيرة، وأنا آسف إذ أقول إن المتدينين إجمالاً قد جعلوا القرآن سجيناً لعقولهم الصغيرة.
هل يمكن أن نقول إن “مأساة القرآن” هي أنه لم يتح له عقول في مستوى جماله وإبداعه؟
– في الماضي أتيحت له عقول جبارة وجميلة، مثلاً كتاب الجرجاني عن النظم القرآني من أجمل وأعمق الكتب، تفسير الرازي أيضا، الدراسات القرآنية القديمة عظيمة، لكن هذه الدراسات العظيمة لا يمكن أن تقاس للدراسات الحالية أبدا، أكثر من هذا أن الأشخاص الذين حاولوا قراءة القرآن في العصر “الرقمي” و”الحداثي” وأرادوا إدراج الفكر الإسلامي في الفكر الكوني كمحمد أركون مثلا..هؤلاء تصدى لهم البعض ووصموهم بالكفر.
هل تريد ترشيح محمد أركون كمفسر للقرآن؟
– مفسّر..لا!..هكذا سوف أقضي عليه حينما أحوّله إلى شيخ!
لنسمّه قارئاً إذن؟
– قارئ..نعم.
تحدثت عن دراسات جميلة للقرآن في العصور السابقة، ما الذي قدمته هذه الدراسات للعرب اليوم؟
– المشكل أن العرب يتحدثون عن تراثهم دون أن يعرفوه، العرب أجهل الناس بتراثهم..أجهل من الغرب بابن رشد وبالتصوف ومجمع تراثهم، العرب جاهلون على جميع المستويات..الفن العربي لا يعرفه العرب ـ نتحدث بأسلوب العامة طبعا ـ ونفس الشيء مع الشعر الذي يعتبرونه ديوانهم، ويعتبرون أنفسهم جميعا شعراء، أقول لك بثقة: “أجهل الناس بالشعر العربي هم العرب”!..العرب لا يعرفون تراثهم فكيف يستفيدون منه؟”.
تحدث عن تجديد الشعر وتجديد الدين، وفرّقت بينهما، كيف ذلك؟
– تجديد الدين معناه تجديد قراءة النص الديني، أما النص ذاته فلا تجديد فيه، أما في الشعر فأنت تبتكر باستمرار نصاً جديداً.
لو طلب منك مواطن بسيط أن تفهمه قولك بأن الحقيقة الشعرية تحمل قيمة معرفية بينما الحقيقة الدينية قضت على الجانب المعرفي.. أي دور معرفي للحقيقة الشعرية؟
– لقد تحدثت عن الحقيقة الشعرية مجازاً، أما الحقيقة في الشعر فهي موضع تساؤل دائم، ولا يمكن القبض عليها، إنها “حرية البحث عن الحقيقة”، وإذا كان هناك عالمٌ معرفي قوي ومتماسك، فهذا العالم المعرفي خلقه الشعر في المقام الأول بدءاً من امرئ القيس فأبو نواس وأبو تمام والمتنبي والمعري..هؤلاء خلقوا لنا عوالم أكمل من العوالم التي خلقتها الفلسفة مثلا، والتي كانت محصورة في الإطار المنطقي العقلاني، لقد علمنا الشعر كيف نناقش الدين وكيف نتمرد عليه وكيف ننقده وكيف ننفصل عنه.. لقد خلق لنا عوالم أخرى.
طيب، لو قدر لكوكبة من الشعراء أن تتولى الحكم بدلاً من حكامنا التاريخيين، كيف كان ماضينا سيكون؟
– أولا، لا يمكن المقارنة بين الشعراء والحكام، فمعاوية وهارون الرشيد..وغيرهما، هؤلاء مع أنهم أسسوا الدولة العربية الأولى، فاليوم أصبحوا جزءًا من التاريخ العربي وكفى، ونحن لا نعرفهم إلا بقراءة تاريخ العرب، بينما كان التاريخ جزء من الشعراء وعرفنا التاريخ بهم، ولم نعرفهم بوساطة التاريخ. إنهم أعظم بكثير من معاوية وهارون..هم خلقوا العصر ولم يخلقه الخلفاء، والنظام السياسي.
هلا أوضحت الأمر قليلاً؟
– النظام السياسي جزء من التاريخ، بينما التاريخ مندرج في الشعر، فالذين خلقوا الهوية العربية ليس الخلفاء ولا الساسة ولا المؤسسات ولا الاقتصاد..الذي خلق الهوية العربية هو الإبداع العربي، وقد كان هذا الإبداع متمثلاً في الشعر بالمقام الأول، وهو الآن ممثل بالشعر والهندسة المعمارية والفنون المختلفة..إن الهوية هي إبداع الفنان وليست صنعة السياسي.
هل يمكن القول تأسيساً على ذلك بأن تاريخنا كان صراعاً بين صناع الهوية العربية من الشعراء ومدمريها من الحكام؟