م. زياد صيدم
أصر على شراء دراجته النارية أسوة بشباب الحي، بعد مرور عام على هجرتهم إلى بلد أجنبي.. لبى الأب رغبة ولده عندما أتم دراسته الثانوية بنجاح.. اختارها ثائر بمحرك قوى فكان يسابق الريح في سرعته .. أدرك الأب جيدا بما يدور في ذهن ولده ! فنصحه بشراء خوذة واقية للرأس فابتسم ثائر مبديا سعادته من قلق وخوف أبيه عليه وعمل بنصيحته .. وفى يوم عاصف اختاره الشاب عن قناعة في عقله ؟ ركب دراجته النارية وانطلق بأقسى سرعتها يسابق الريح كعادته..
اهتز جسم الأب فانتفض جالسا من على سريره.. وتمتم لا حول ولا قوة إلا بالله.. دق جرس التليفون بعدها مباشرة .. كانت سكرتيرة الاستقبال بقسم العناية المركزة في مستشفى المدينة .. لم يكن صعبا العثور على رقم الهاتف فقد أعلمتهم شرطة المرور به.. ذهب مسرعا يتلو آيات من الذكر الحكيم ويصلى لربه أن يحفظ والده.. مكث فيها قرابة الأسبوعين مرافقا له على أمل أن يستيقظ من غيبوبته.. وفى اليوم الخامس عشر فتح ثائر عينيه وابتسم .. فبادله الأب بدموع حارقة تدفقت من مقل حمراء على صحت خده تساقطت كحبات المطر .. تفحص الشاب حوله فلم يعثر على ساقيه .. حبس صرخته وفزعه.. أراد أن يُشير لأبيه عن مكان ساقيه عله يستطيع إخراج صرخته فيستريح .. وهنا أدرك بأنه لا يقدر على حراك ذراعيه أيضا ؟.. فقد أصابهما شلل تام ..هكذا قرأ الأب تقريره النهائي .. انطلقت صرخة مدوية خرجت من بين لسانه وفكيه الثقيلتين بصعوبة ومشقة .. أجال ملهوفا بنظراته الحائرة في أرجاء الغرفة .. كمن يبحث عن شيء عزيز فقده عله يجده فيطمئن قلبه ؟؟ أو كمن كان يتمنى أن يكون في حُلم مخيف فيصحو منه !.. فتذكر للتو حادثته المروعة.. لقد كانت الرياح شديدة والطريق يكسوها ضباب كثيف عندما كان مصرا على سباق الريح بأي ثمن ؟؟ كان كمن يتحدى قسوة الغربة وقرار تهجيرهم وترحيلهم مع والديه .. فلم تحتمل الأم شدتها .. فماتت قهرا بعد اقل من شهرين على تركها للديار والأهل والأرض الطيبة.. لقد كانت روحها معلقة برائحة الأرض المباركة .. فأسلمت الروح وهى تبتسم !!
لقد تم إبعادهم عن ديارهم بأمر تعسفي من الحاكم العسكري للبلدة .. بعد أن وجدوا عتادا حربيا يستخدمه الثوار في مخزن بمزرعتهم .. حيث أنكر الأب بأنه يعلم عنه شيئا.. فذاق التعذيب أصنافا وألوانا.. لكنه كان صامد كالصخر حيث انتهى بحكمهم الظالم عليه بالرحيل خارج البلاد .. فهو لم يقر أو يعترف لهم بالتهمة الموجهة له .. كما لم يقر بشرعية المحكمة يوم إصدار قرارها الجائر بحقه وأسرته.. لقد كان من قادة الثوار الصناديد حيث يشهد الجميع على ذلك.
بينما ثائر منهمك فى تفحصه للمكان .. تعثرت عيناه على خوذة رأسه.. كانت قد وضعتها الممرضة على ظهر دولاب في الركن الآخر من الغرفة ..فهي كل ما تبقى من الحادثة المروعة فعندما أحضروه كانت ما تزال ملتصقة برأسه حيث حمته من موت سريع .. حينها تذكر نصيحة أبيه له وبإصراره على ابتياعها.. فأشاح ببصره نحوه وابتسم ابتسامة حزينة حائرة ؟ كانت تخلو من كل رجاء أو أمل.. لقد كانت نظرات كلها عتاب وألم !.. ففاضت عيناه بدموع آزرت وعانقت نحيب الأب ودموعه التى لم تجف بعد..لكنه تبسم بثغره الجميل قبل أن يُغمض عينيه ويذهب في غيبوبته للأبد ..
وليبقى الأب شامخا كعادته يحمل حقه بالعودة للديار.. وفى مخيلته وذاكرته ابتسامتين لا تنمحيان من أجمل ما رأى في حياته !!.
إلى اللقاء.