السجن ضيف ثقيل الظل يفرض وجوده عليك رغماً عنك ويدخل عالمك بلا استئذان، أو كما يقال بالعامية “بلا احم ولا دَستور”. هذا في تجارب الشعوب عامة، أما في التجربة الفلسطينية “فصاحبنا” ،أي السجن، فيه ما يتجاوز “ثِقلَ الظل”، فكما أن بابه مفتوح دائما، وطبعاً للداخلين فقط، فشهيته مفتوحة دائما وابدأ، وبنَهَمٍ شديد، فكلما أُلقِيَ فيه فوج، سأل الخزنة والسدنة “هل من مزيد”!. بقي أن تعرف عزيزي القارئ أن ضيفنا إن حل بساحتك فإياك أن توهم نفسك بأن زيارته لك ستكون سريعة خاطفة، فهو مُحبٌ للخلان يكره الوحدة ويطيل المكوث!.
والسجن حاضر في كل بيت فلسطيني، لم يترك باباً إلا وطرقه ولا عزيزاً إلا وطاله. فالأب والابن والأخ والزوجة والطفل كلهم محببون على قلبه، وكلهم مرشحون “للتبرك” بجدرانه والنهل من ينبوع “عطفه وحنانه”!. والخاطرة التي بين يدينا اليوم تحكي قصة واحد من هؤلاء الذين ما زالوا في “ضيافة” السجن، وقد كان له ولإخوانه حظ وافر فيه. فالوالد محمد عثمان “أبو طالب” والوالدة “أم طالب” لم يكونا على علم بأن القدر يخفي لهما ابتلاء اعتقال أبنائهم الأربعة دفعة واحدة، ولم يُخيل إليهما يوماً أن هذا كان يعني بداية رحلة العذاب والتيه والألم، والتي بدءا معها “الطواف” ما بين السجون الإسرائيلية المختلفة. فاليوم يسألون عن طالب وغداً يبحون عن أحمد وجميل وبعد الغد هم على موعد لزيارة مالك. والجدة الغالية أم عدنان “أخت الرجال”، رحمها الله، والتي ما دمعت لها يومٌ دمعة، ما انفكت تبكي ألماً على فراق الأحبة وغيابهم. وهي التي كانت تطربني أيضاً بأحاديثها وحكاياتها الشيقة عن مسقط رأسها عِنّابة وعن أخبار الثوار ومعارك الواد. ولا زِلتُ بحق اذكر نشيدها العذب عن شهداء سجن عكا :
من سجن عكا طلعت جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي
جازي عليهم يا شعبي جازي المندوب السامي وربعه عموما.
كيف نعجب إذاً من بكائها وهي التي ربّت حفيدها طالب وأرضعته حب فلسطين، فكان صورة أخرى عن شموخها وصلابتها وتعلقها بتراب أرضها الطهور. وهل نعجب بعد ذلك أن طالب عثمان ذلك الشاب المهذب المتزن الهادئ كسكون الليل يحمل بين جنَباته كل هذا الحب والحماس الكبير لفلسطين!. فرغم عوائق الحياة الكثيرة والكبيرة التي اعترضت طريق طالب وأهله، ورغم المسؤوليات الجسام التي أُلقيت على كاهله وهو لم يزل غضاً طري العود، لم تشغل هذه الأحداث الجسام طالب عن فلسطين، ولم تُثنه عن دربه ولا عن رسالته التي غرستها فيه الجدة “أم عدنان” رحمها الله، فبقيت فلسطين حاضرة في قلبه ووجدانه، ولبى ندائها حين نادته وفداها بأغلى وأجمل سنوات عمره وشبابه، وهو اليوم يقضي حكماً يصل إلى عشر سنوات أمضى الآن ما يقارب نصفها صابراً محتسبا. واليوم نؤكد لطالب في سجنه، وهو الذي لم يتمكن من وداعها، أن جدته مضت إلى ربها آمنةً مطمئنةً مبتسمة وكأنها تقول لحفيدها طالب ” أنت ماثل أمامنا وحاضر فينا رغم الغياب”.
محمد السواحري