بقلم: أنور مالك – باريس
الجزء الأول
منذ أن غرقنا في الهزيمة والتخلف والغزو المتتالي
بقلم: أنور مالك – باريس
الجزء الأول
منذ أن غرقنا في الهزيمة والتخلف والغزو المتتالي وتحولنا إلى مستنقعات للرذيلة والتبعية والردة والفاشية، ونحن تحت طائلة كل الهلوسات والدروشات والخرافات وكل المخططات التي حولتنا إلى فئران تجارب تستعمل في مخابر لصناعة كل أنواع الشعارات الغبية والتحولات الفاشلة التي تحكم المجتمع البشري… فخروجنا من هذا النفق المظلم الذي ساقتنا إليه أقدارنا التي ظهرت وكأنها تحالفت مع حكام الرذيلة والفساد والإنبطاح، صار في عداد المستحيلات أو الخرافات التي لا تظهر إلا في أضغاث المستضعفين والمغلوبين، ولا تتجلى إلا كأخبار عاجلة على مسار مستقبلنا المحفوف بالريبة والإنزلاقات…
لقد استغل الكثيرون – عبر التاريخ – سذاجتنا ووضعنا المخزي استغلالا قذرا، فمنهم من صنع ثروات طائلة بسبب متاجرته بقضايانا، وآخرون أشبعوا غرائزهم وشهواتهم في التبضع من الحكم والسلطة والجاه، وأكثر من ذلك يوجد من تقمص شخصية المنقذ المنتظر ليسرق أحلام المغلوبين ويصل بهم إلى درجة القنوط واليأس والإحباط، فقد تعلقت أمالنا على الكثيرين ولكنها ذهبت أدراج الرياح، بعدما انهزموا أو ارتدوا على أثارهم قصصا، بل آخرون كانوا يبيتون نية الغدر كما جرى مع كمال أتاتورك، الذي حمل المصحف على سنام سيفه وظهر كأنه منقذ أمة الإسلام من براثن التخلف والتبعية، ولكن بعد انتصاراته ظهر أنه ألد الأعداء لها حتى من الصليبين والغزاة أنفسهم…
نكسات عبدالناصر
جاء الرئيس المصري جمال عبدالناصر وسرق أحلام الشعوب العربية بشعارات قومية جوفاء، تذهب بلب كل ضعيف المشاعر خاصة في ذلك الزمن الذي ولدت دولة إسرائيل ووطدت أركانها، ولكن هل تحققت الوحدة العربية التي أرادها جمال عبدالناصر كما أظهر للناس؟ هل أزيلت إسرائيل من الوجود كما كان يتغني ويتعجرف؟ بل أكثر من ذلك أنه لما انهزم عبدالناصر ومني بنكسة كبرى في عام 1967 لم يجد ما يبرر به فشله، إلا أن ظهر دامع العين ومثخنا بالجراح على التلفزيون وهو يلقي خطبة الوداع ويعلن تنحيه من الحكم، ولو كان حقيقة يريد الإستقالة لفعلها ونقل الخبر في وسائل الإعلام، ولكن أن يظهر بطريقة مسرحية هزيلة تدغدغ مشاعر المسحورين بالناصرية حينها، فذلك لم يكن إلا خداعا من “البطل” القومي العربي الذي أراد أن يعيد أمجاد الصحابة والخلفاء الراشدين أو الناصر صلاح الدين الأيوبي أو عقبة بن نافع أو الظاهر بيبرس أو محمد الفاتح أو يعيد تاريخ الفتوحات الرائدة… بلا شك أننا كأمة مهزومة منينا بإنكسار كبير وخيبة ظن في “الزعيم العربي” الذي أراد أن يكون الناصر الجديد، وبلا أدنى تردد أنه هب من بعده ممن يريد تبييض سواد الرجل، ويرمي الخيبة والنكسة في أعناق آخرين خانوه ووأتهموا بالعمالة وعلى رأسهم الملك الأردني الراحل، لا نريد أن نخوض في التفاصيل التي تدين القيادات حينها ويجعلنا نحملهم كل المسؤولية ففي عهدهم ضاع بيت المقدس، ومن وصل بسياسته إلى هذا فلسنا في حاجة إلى أن يأتي أي كان ويجعل منه رجل فريد بعث في غير زمنه.
الخميني ومتعة المكر
الخميني وبالرغم من عقيدته الشيعية التي هي محل مراجعة من أغلب علماء الدين الإسلامي، لما فيه من التجني على العقيدة والصحابة والتاريخ، إلا أنه حمل شعار “الثورة الإسلامية”، فهبت الشعوب المتعطشة للبطل الأسطورة من أن تجعله الفاتح الجديد والمغوار، وخاصة أنه جعل من أمريكا الشيطان الأكبر وهدف ثورته الحقيقي هو تحرير القدس من الصهيونية ومحوها من الخريطة، وكانت بالفعل هذه الشعارات الرنانة ضربة قوية لكل المشاريع القومية الأخرى، وصار التشيع يسري بين طبقات المجتمع ومن دون حتى فهم معانيه وأصول منبته، مما جعل أطماع الخميني تمتد من أن يحول العالم إلى دولة شيعية فارسية واحدة، ويجعل الجميع يحتكم إلى مرجعيته في إطار ولاية الفقيه التي يقدسها ويرسي فقهها، غير أنه يوجد من تفطن إلى مشروع الخميني الصفوي الهدام، فتصدوا له وكشفوا خفايا وخطر هذه الثورة التي هي في الأصل ثورة عرقية وطائفية لا غير، لكن ماذا حدث حقيقة وهل بالفعل بقيت ثورة الخميني تستهوي الناس؟ الحقيقة واضحة للعيان وإن حاول أصحاب العمائم السوداء في طهران وقم والحوزات المنتشرة هنا وهناك إعادة بريق الثورة التي خفت وخاصة لما إنكشفت ملفات من العيار الثقيل عن مسار الخميني وعلاقاته السرية بإسرائيل والدول الغربية، وطبعا بدأ من فرنسا التي عاد منها فاتحا لبلاده عام 1979 ومعلنا دولته الشيعية تحت عنوان إسلامي بارز ومسيل للعاب… هكذا رحل الخميني غير مأسوف عليه لدى المتطلعين للمجد الضائع.
نهاية صدام
الراحل صدام حسين بدوره سرق الأضواء بامتياز، وكان السبب الحقيقي حينها هو وجود فراغ رهيب في تكويننا السياسي والعقدي، فنحن الذين نؤمن من أن التحرير لا يأتي جزافا بل بأمة تحمل قيم وتتزعمها قيادة راشدة في مستوى حضارة الحرية، لا يمكن أبدا أن لا نظل نتطلع دوما إلى القائد الناصر الفذ الذي يخرجنا من جب الهزيمة والرق…
دخل صدام حسين في حرب مدمرة ضد إيران التي كانت حينها في أوج انتصارات الخميني، وفسرت حينها من طرف إيران على أنها حرب بالوكالة بين طهران من جهة وتل أبيب وواشنطن والغرب كله من جهة أخرى وبتحالف مع بغداد طبعا، ولكن من جهة العراق والكثيرون من العرب فسروها على أنها حرب لتقليم مخالب الثورة الخمينية التي يريد تصديرها للعالم ويهيمن بها على العرب والمسلمين، والعراق بلا شك من أبرز المتضررين وهو ينام على بركان شيعي كبير يحمل ولاءه المطلق لإيران، وظهر جليا في إحتلال أمريكا لها عندما تحول شيعتها إلى أكبر العملاء الذين ساعدوا أمريكا على انهيار دولة العراق والسيطرة على ثرواته، بل أكثر من ذلك أنه صار ملعبا يتبارى فيه عملاء الموساد وطهران علنا بلا حسيب ولا رقيب… نعم عندما غزى صدام الكويت ودكت صواريخ العباس والحسين قلب تل أبيب، هب المستضعفون في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي إلى جعله البطل الحقيقي والجديد الذي جاء من غياهب الماضي المجيد لتحرير الأمة، فصارت صاد صدام ترمز للحرف الأول من صلاح والدال هي الدين والألف هي الأيوبي والميم هي المنتظر، وهكذا في لحظة من الشعور بنشوة الكبرياء بعد الذل والهوان تحول صدام إلى صلاح الدين الأيوبي المنتظر… لكن كيف صار الأمر مع هذه البطولة؟ وأين صدام حسين والعراق اليوم؟ أكيد أن الأنصار سيبررون ذلك الفشل والنهاية المشئومة لدولة نجح بلا شك صدام حسين في بناء عظمتها، بسبب العملاء سواء في العراق أو من دول الجوار التي منحت أراضيها للدبابات والطائرات الأمريكية لتدك بغداد، وانتهت بذلك أسطورة بطل اعتقدت الأغلبية أنه الفاتح المرتقب بلا منازع…
بعد الانسحاب من الكويت وتحول قصور الرئاسة العراقية إلى ركح يتبارى عليه رجال التفتيش الذين هم في الأصل ضباط مخابرات من طراز مميز، أحسسنا بمرارة الهزيمة مرة أخرى وان كانت الأغلبية الساحقة قد حملت مسؤولية نهاية أسطورة صدام حسين على عاتق كل الحكام والأنظمة العربية التي خذلته وتحالفت مع الغزاة، وهو مما لا يختلف فيه اثنان لذلك أكرمه الله بنهاية طيبة لشخصه على الأقل وخذلانا لأعدائه من الشيعة خاصة، ولكن لا أحد تساءل يوما وهو يتوجه بتلك الأوسمة: هل صدام حسين كان حينها بالفعل يحمل مواصفات القائد والبطل العربي أو الإسلامي؟… وهنا يجب أن نغض الطرف عما ظهر عليه بعد سقوطه في شباك الغزاة فالسجون تصنع الرجال أكثر من قصور الزعامة، وخاصة لمن كابر بهمم الفحول حتى النهاية.
هذه المواصفات التي لم نتفق بعد على تحديدها والتي تتركنا نعول عليها في صناعة من يملأ الفراغ الرهيب الذي يشغل العقول والقلوب ويخيم بظلاله على المشهد العقائدي المتجلي في مهدي منتظر له صورته وخصوصيته في العقيدة السنية، أو في إمام غائب يعيش في سرداب شيعي ينتظر الأوان لعودته لإحقاق العدل بعدما تنتشر الرذيلة والقتل والموت والدمار الذي يروج له جيش مقتدى الصدر، أو حتى الرئيس الإيراني بهلوسات جديدة تثير السخرية والقرف، حول رعاية هذا الغائب المزعوم منذ قرون في سراديب هوليودية ينتظر أن يحول الفرس والصفويين البحار والمحيطات إلى دم ويغرق الكرة الأرضية في الموت الطائفي والجريمة الإنسانية، ليخرج من كهفه العجيب ويمتطي الجواد المسرج له ويحقق العدالة في الأرض المتجسدة في دحر الغزاة وجلد الخلفاء الراشدين على مرأى الناس !!.
هزائم نصرالله
مرة أخرى في رحلة البحث عن البطل يظهر علينا من يقلد من جديد بوسام البطولة لأمة مهزومة، وصار مجرد الحديث عنه هم مساس بالله ورسوله، وقد خرج هذه المرة من عمامة الخميني ومتشبعا بعقائده وأطروحاته العرقية، ولم يكن سوى حسن نصرالله الذي تزعم ما يسمى “حزب الله” في لبنان، ومن دون أن نعود إلى تأسيس هذا الحزب والدور الإيراني في ذلك والمخططات التي أعدت لأجل تسويق بضاعة الثورة الخمينية التي لفظت عربيا وإسلاميا بعد اتضاح صورتها الصفوية الفاضحة، ولذلك كان من الواجب صناعة ثورة أخرى وبأثواب عربية بعدما عجزت المراهنة على العراق حينها، وهكذا إستطاع “شيعة لبنان” من السيطرة على الساحة بالسلاح والدعم الصفوي والعلوي، وهكذا بدأ من “حركة أمل” التي يشهد الصغير والكبير على مجازرها الفظيعة في المخيمات، ووصولا لما يسمى بـ “حزب الله” الذي دمر لبنان ومكن منه الغزاة أيما تمكين، فقوات اليونيفيل التي تسيطر الآن على الجنوب وتحمي ظهر إسرائيل من المقاومين الفلسطينيين الذين يتعلمون فنون المقاومة في المخيمات ويتسللون لتنغيص حياة الصهاينة في عمليات نوعية ومحكمة ومتقنة، وذلك طبعا قبل تموز 2006 الذي شكل منعطفا بارزا في تغيير وتحول الرقعة العربية إلى واقع آخر يخدم الصهاينة، ولست هنا أدافع عن هذا الكيان المجرم في حق الإنسانية جمعاء وما اقترفه من مجازر في لبنان عبر الاعتداءات المختلفة وغزة لن ننساها مادام بنا نفس ينبض…
نعم لقد حول نصرالله من “انسحاب إسرائيل” إلى “انتصار” عبر قنواته المختلفة التي تدعمه إيران وسورية طبعا، وجعل منه العنوان البارز لبداية تنفيذ مخطط يجعل منه بطلا مغوارا يبيض تاريخ الصفويين ولكن بوجوه وأيادي عربية وبانتصارات محكمة الأبعاد في تل أبيب، ولكن لا أحد تساءل هل من الممكن أن تسلم إسرائيل الجنوب لـ “حزب الله” إن كان بالفعل هزمها ودحرها؟
أعتقد انه كلما ينسحب الصهاينة من منطقة تظهر في ما بعد علامات مخططها، فقد هزمت في 1973 وبعد خمس سنوات جاءت معاهدة كامب ديفيد التي حولت ذلك المسمى نصرا لهزيمة على يد السادات الذي ظل يوصف أيضا بـ “القائد المؤمن” وله تطلعات عبدالناصر في الزعامة المطلقة للأمة، وفتحت الباب إلى إسرائيل من أن تؤمن حدودها وتبرر تواجدها مع دول الجوار والذي هو ضروري لكل دولة، فلا يمكن أن تستمر وترسي استقرارها في ظل عداء مطلق يحيط بها من كل جانب، وأيضا أعطت للفلسطينيين حكما ذاتيا جعل مراقبتهم سهلة والتمكن من وسطهم أسهلا، فانسحبت من غزة انسحابا عد – طبعا – انتصارا كبيرا ونقطة تحول كبرى في مسيرة تحقيق دولة فلسطين، ولكن تحولت “دولة محمود عباس” أو البعض يفضل لها اسم “حكومة حماس” إلى أرض قذرة للموت والحرب الأهلية التي هي بلا شك مخطط نسج بإحكام وبدقة وبإستراتيجية في مخابر الموساد وعن طريق العملاء، أعتقد بل هو من المؤكد أن كل انسحاب تحكمه حسابات قوية وخفية لا يعلمها إلا من يساهم في تحرير نصوصها ورسم فصولها، والتي تقابل عندنا دوما بالتصفيق والزغاريد على أنه انتصار رهيب يفتح شهية المضي قدما نحو بيت المقدس، ولحقه كذلك الانسحاب من الجنوب اللبناني وثمة سيأتي بلا أدنى شك انسحاب من هضبة الجولان، وسيلحق ذلك الانسحاب سقوط رهيب لدمشق وتأمين آخر للتواجد الصهيوني في المنطقة التي هي مقبلة على تغيير إستراتيجي شامل وفق رؤية أمريكية / صهيونية وفي غضون السنوات القليلة القادمة… فاعتبار الانسحاب من الجنوب هو انتصار نوع من الغباء وهو أيضا من ناحية أخرى بداية الصناعة لبطل آخر، واعتبار حرب تموز 2006 التي دمرت لبنان وجعلته أرضا محتلة من قوات اليونيفيل هو أيضا تسويق للحمق وتأكيد آخر لبطل أسطوري ستكون نكسة أخرى قوية لنا… فحسن نصرالله الذي يعلن افتخاره بأن يكون جنديا في ولاية الفقيه التي يتزعمها مرشد ثورة الخميني في طهران، وهو الذي أعلن من قبل عن اقتراب زوال إسرائيل وعلى يديه طبعا، لم يستطع لحد الساعة أن يظهر علنا ويخطب على جنود حزبه وأنصاره، فهل من المعقول أن بطلا للانتصار لا يظهر في مهرجاناته إلا من شاشات مثبتة في ساحات عمومية؟…
يتبع