تستهدف جميع الأيديولوجيات السياسية بشكل رئيسي طبقة محددة في مجتمعاتها لتوجيه خطابها وتجنيد المناصرين لدعوتها, وتدعي كل حركة أيديولوجية تمثيلها لمصالح وحملها لهموم طبقتها تلك, فالشيوعيون مثلاًَ ركزوا على طبقة العمال, وأنصار العولمة وثقافة الفرد يعملون بين البرجوازيين وكبار التجار والإسلاميون منتشرون بشكل ملحوظ داخل الطبقة الوسطى خاصة المهنيين منهم كالمهندسين والصيادلة,الخ. وحتى عبدة الشيطان ينشطون بين أبناء الذوات المصابين بالخواء الفكري, وقد تجد أن الكثير من الأحزاب الوطنية الإقليمية ليست في حقيقتها إلا واجهات سياسية لتمثيل عشيرة فلان أو طائفة علان.
وقد كان إبن خلدون أول من إكتشف سر هذه المعادلة, فالوصول إلى السلطة لا يمكن ان يتم للساعي إليه بغير تمتعه بوجود (عصبية) ما إلى جانبه تسنده, بحيث يمثل هو مصالحها وتكون هي له بمثابة السلم الذي يحتاجه للوصول إلى السلطة.
و بذلك فإن تقلص حجم طبقة إجتماعية أو طائفة أو عشيرة ما سيؤثر سلباًَ على حجم وتأثير ونقوذ الحركة الايديولوجية أو الحزب الطائفي أو العشائري الذي يمثل مصالحها, فتقلص حجم طبقة عمال المصانع في أوروبا أدى أثر سلباًَ على نفوذ الأحزاب والحركات الماركسية والإشتراكية بل وأدى إلى إنهيار العديد منها كذلك فإن صعوبة ظروف الحياة وإضطرار أعداد متزايدة من ابناء الريف للهجرة للمدن الكبرى وما تبع ذلك من تغيرات ملحوظه على شكل التركيبة السكانية في مناطق جغرافية واسعة قد أثر سلباًَ على حضور ونفوذ الكثير من الحركات العشائرية والطائفية, وكذلك فإن إنحسار حجم الطبقة الوسطى بفضل سياسات العولمة وغلاء الأسعار الجنوني وفتح الباب أمام رأس المال والعمالة الخارجيين لصالح الطبقتين الفقيرة والثرية قد أدى في بلاد مثل مصر والأردن إلى إنحسار نفوذ الإسلاميين في مدن كبرى كانت تعد في السابق من أهم معاقلهم.
ولكن يوجد في بلادنا العربية من لم يمكن حسابهم على طبقة مهنية معينة ولا على عشيرة أو طائفة بعينها فهم ليسوا بصناع ولا زراع, وليسوا بمهنين ولا تجار ولا ينتمون جميعاًَ إلى طائفة أو عشيرة أو عائلة واحدة وقد ظلوا طوال تاريخنا الحديث خارج دائرة التأثير السياسي وبالتالي خارج دائرة الإهتمام الرسمي والحزبي الحاكم والمعارض على السواء.
فهؤلاء لا تهمهم السياسة بشيء ولا يلقون لها بالاًَ, فجوعهم يشغلهم عنها, ولا تنتشر فيهم سمات التدين بشكل عام لأن ظروف حياتهم المزرية لا تشجعهم على الإيمان بأي شيء , إلى جانب أن الدعاة الدينين لا يفضلون الذهاب إلى مناطقهم القذرة عموماًَ, ولا يهتم بهم الماركسيون واطياف اليسار لان تعريف علم البروليتاريا وقوانين الصراع الحتمي بين العمال والرأسماليين لا ينطبق عليهم, ولا يحفل بهم الإسلاميون كذلك فليس لهم نقابة يصوتون فيها ولا تعتبر مساكنهم العشوائية دائرة إنتخابية معترفاًَ بها, وطبعاًَ لا تحسب لهم الحكومات حساباًَ لأنها تعرف أنهم يعيشون على هامش الحياة الإجتماعية و السياسية, ولا تكتب عنهم الصحف إلا نادراًَ لأن القراء فيهم ما يكفيهم من القرف.
هؤلاء المهملون الجهلة العاطلون عن العمل هم موضوع مقالتي هذه, لإنهم يشكلون فعلاًَ ظاهرة تستحق الدراسة, فهم ضحايا المجتمع والحكومة والمعارضة والسياسة والاحزاب والرأسمالية العالمية والإستعمار القديم والحديث, فحياتهم في الهواء الطلق أصعب من حياة المعتقلين السياسين داخل الزنازين, هؤلاء يولدون بغير شهادات ميلاد ويموتون بغير شهادات وفاة, يسكنون المقابر وينامون بين قبورها وهم أحياء فإذا مات الواحد منهم لم تستطع عائلته توفير ثمن قبر له ليدفن فيه, يسكنون الكهوف فلا يعرف عنهم الإنس أو الجان وبعضهم يفضل العيش على الأرصفة وقارعات الطرق إستئناساًَ برؤية غيره من بني اّدم ممن أنعم الله عليهم.
وأنا هنا لا أتحدث عن مئات أو ألاف بل عن عشرات الملايين, فالتقارير تتحدث عن ثمانية مليون مصري من سكان المناطق العشوائية الغير معترف بها والتي ينقصها كل شيء من الماء والكهرباء إلى الصرف الصحي والشوارع , ناهيك عن مليونين من سكان المقابر, وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة لعام 2005 بلغ عدد المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر قرابة 16.7 بالمائة من السكان. وهذا يعني في بلد يبلغ عدد سكانه 77.5 مليون أن قرابة 13 مليون نسمة يعيشون في ظروف حياتية غير بشرية.
وفي الأردن تؤكد الأرقام التي خلصت لها وزارتي الشؤون الإجتماعية والتخطيط أن عدد من يعيشون تحت خط الفقر والمقدر محليا وفقاًَ للمعايير المعمول بها بحوالي 34 دينار شهريا للفرد قد ارتفع ليصل حاليا نحو 807 ألف فرد دخلهم الشهري اقل 3ر33 دينار شهريا. وفي الجزائر مثلاًَ كشفت بيانات حديثة لجمعيات الطفولة المسعفة اتساع ظاهرة عمالة الأطفال تحت الثالثة عشرة إلى حدود المليونين طفل.
وكانت أحدث دراسة للمنظمة العالمية للطفولة الكائن مقرها في بروكسل, قد أشارت إلى أن منطقة المغرب العربي تحتل صدارة الأطفال العاملين بـ6.2 ملايين طفل. كذلك أشار تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة ”أسكوا” إلى أن نصف سكان العالم العربي يعيشون بأقل من دولارين في اليوم.
ومن بين أبناء هذه الطبقة في وطننا العربي من يموتون بالألاف يومياًَ لعدم قدرتهم على تلقي العلاج اولعدم إستطاعتهم الوصول لمراكز تزويد العلاج المجاني على تواضعها ورداءة الخدمات المقدمة فيها, والملايين من ابناء هذه الطبقات ينشؤون بلا تعليم ولا تربية ولا أمل في اي مستقبل قادم.
وهكذا نستنتج أن فئة المعدمين هذه في مجتمعاتنا العربية هي الطبقة الأكبر والأكثر إتساعاًَ وتوزيعاًَ والأسرع نمواًَ كذلك, غير أن المستغرب حقاًَ هو أن هؤلاء الناس لم يتحركوا بعد لقلب الطاولة رأساًَ على عقب في بلدانهم, فليس لدى هؤلاء الناس شيئاًَ ليخسروه والموت بالرصاص أفضل من الموت على المزابل وسجون السلطات مهما بلغت بشاعتها تظل أفضل من المقابر والكهوف.
أهو الجهل بالحقوق, أم هو خلو الميدان من قيادات محركة, أم عدم وجود أيديولوجا خاصة بالمحرومين في الأرض, أم كل ذلك ام بعض منه, اسئلة كثيرة لست مهتماًَ بالإجابة عليها الاّن لعلمي أنه وفي ظل مثل هذه المعطيات لا بد وأن يكون الإنفجار قادم وقريباًَ جداًَ.