عائد نبعة
عندما يفرغ كاتب السيناريو من وضع نصه الأدبي يتسلم المخرج مهمة تأثيث زمان ومكان النص,و تحويله إلى مشاهد مصورة حية تبث فيها الشخوص والألوان والتكوينات والموسيقى جملة جديدة ,ليس على الورق وإنما على شريط سينمائي أو على أي مادة أخرى من مواد الخطاب البصري,فالنص الأدبي والسينما هما لغتان مختلفتان تماماً,الكاتب يضع النص بلغة والمخرج يترجمه إلى لغة أخرى.
يفتقد بعض كتاب الدراما الجيدين أحياناً لأدوات الوصف البصري للمشاهد, ووصف الشخصيات والزمان والمكان والموسيقى, ويكتفي بالوصف الأدبي لعناصر النص, وبالرغم من ذلك فقد نجح بعض المخرجين في تحويل النصوص الأدبية لهؤلاء الكتّاب إلى مواد سينمائية أو تلفزيونية فذة,ويعتمد هذا على خيال المخرج وأدواته, وعلى صعيد آخر فقد تجد نصوصاً زخمة بالوصف البصري, ولكن حدة خيال المخرج تحول دون تكميل رؤية الكاتب ,فتخرج المشاهد مسطحة بصرياً والشخصيات غير مكتملة,فلا بد أن يكون كاتب السيناريو ومخرج الفيلم أو العمل على وعي ومستوى ثقافي متقارب وهذه هي فكرة الثنائي التي أطلق منها المخرج “بشار حمدان” فكرته “ثنائيات” ففي فيلمه الأول من هذه الثنائيات والذي جاء تحت عنوان “النص والصورة” بحث بشار أولا عن ثنائي يشاركه الفكرة فكان الكاتب” نادر الرنتيسي” فهما لا يلتقيان في كل شيء ولكنهما لا يختلفان كثيراً ثم بحثا معا كثنائي عن ثنائي آخر -عن ذاكرتين دراميتين- لصياغة الفيلم الأول من السلسلة وكان الدكتور “وليد سيف” والمخرج “حاتم علي” ,جاء الفيلم الذي انتجتة شركة طيف للإنتاج الفني خصيصا لقناة الجزيرة الوثائقية ليخوض في تجربة وليد سيف و حاتم علي في اثنان وخمسين دقيقة,يفتتح الفيلم بعد العنوان ملامح النص الأول بلقطات صباحية واسعة لطولكرم ودمشق ,الأولى ترزح تحت الاحتلال والأخيرة تحت الحكم الاشتراكي فكلاهما أي وليد وحاتم في اتجاهين مختلفين سياسيا ربما لأن إفرازات الاحتلال غير تلك التي تفرزها الاشتراكية وعلى الرغم من أن كلاهما يكتب بلغة مختلفة الأول بلغة أدبية والأخير بلغة بصرية إلا أنهما متقاربان في الرؤية, وأذكر في هذا المقام الشاعر الفرنسي “بودلير” الذي قال بأن أعمال الكاتب الأمريكي “أدغار ألمبو” موجودة في ذهنه أصلاً ولكنها لم تأخذ شكلاً أدبياً في يوم من الأيام,لذلك قام بترجمة أعماله إلى الفرنسية على الرغم من أنهما لم يلتقيا,فحلول حاتم علي لنصوص وليد سيف ليست بصرية فقط وإنما حلولاً فكرية ونفسية, مصاغة بلغة بصرية جديدة ابتداءً من “صقر قريش” “وصلاح الدين “”وربيع قرطبة” “وآخر ملوك الطوائف”,وانتهاءً “بالتغريبة الفلسطينية” التي كانت بمثابة رائعة كتبها شاعرين بلغتين مختلفتين,في الفيلم يتحدث حاتم علي عن علاقته بالدكتور وليد سيف ويصفها بالخاصة, يسلمه الأخير المادة الأدبية دون أي ضغوط أو مراجعات,ويقول وليد سيف في هذا المقام أن أي خلل في الرؤيا يحول دون تكميل الثنائي,كلاهما يتقن حرفته ويصقلها كالصانع حسب تعبير حاتم علي في الفيلم,يظهران في الفيلم على نحو متواتر, كلاهما يجيب عن نفس الأسئلة في مكانيين مختلفين, ضمن رؤى متقاربة وبجفاء تفرضه هندسة المكان أحياناً,يؤسس المخرج بشار حمدان مشاهده البصرية بطريقة كلاسيكية عادية ومملة أحياناً, فهو يبدأ مشهده بلقطة واسعة للمدينة ثم لقطات عامة لبطله أو شخصيته يمشي في المدينة ثم أخيراً يختتم مشهده بمقابلة على خلفية ذات موضوعات داله على حرفة أو صنعة بطله, ولا يهتم كثيراً بجماليات المشاهد البصرية, وينطبق الموضوع على موسيقى الفيلم فالمخرج يستخدم نفس القطعة الموسيقية طوال الفيلم وبنفس الطريقة فهي متصاعدة تغلب عليها الآلات الإيقاعية تبدأ مع بداية مشهده ثم تصبح خلفية للمتحدث,ولكنه نجح في بناء بعض اللحظات التسجيلية لشخوص فيلمه, كلقاء المخرج حاتم علي والكاتب وليد سيف على أطلال المواقع التي صورت فيها بعض من مشاهد أعمالهما المشتركة,كقلعة حمص في سوريا والقرية التي جرت فيها معظم أحداث رائعتهما التغريبة الفلسطينية, الأمر الذي حرك مكامن كاتب التغريبة وليد سيف الذي مازال يسمع أصوت المكان, وهو يشعر بالغبطة لأنه يريد أن يرى ويسمع هذه الناس أي الشخوص في زمانها ومكانها ,وهذه حقيقة فعندما بدأ المخرج بشار بمزج هذه اللحظات على أطلال مواقع التغريبة الفلسطينية مع بعض من مشاهد المسلسل, بدت شخصيات وزمان ومكان العمل كأنها حقيقة تمشي أمامك حتى أن معظم البسطاء وكبار السن ظنوا أن هذه المشاهد حقيقة, وكأن كاميرا حاتم علي كانت هناك وقت النكبة,تتابع يوميات الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتسجل للفلسطينيين الذين ينتظرون دورهم على طوابير المؤن والماء عند أطراف المخيم ,بعد بياراتهم وحقول زيتونهم الوارفة.
لقد نبش المخرج بشار حمدان والكاتب نادر الرنتيسي على مخرج وكاتب قد يغيريان في مسار الدراما العربية ويعملان على فتح جديد لمفهومها وخصوصاً التاريخية منها بعد أن تصدرت الدراما المسطحة شاشات التلفزة العربية.
*