أن تسارع المنابر الإعلامية على اختلافها، إلى تقديم قراءاتها للحدث أي حدث، فهذا عملها، ومهنتها، إذ أنها قامت، وتأسّست، من أجل ذلك لكن، ليس هو حال المفكرين وأصحاب الرأي من غير المتحزبين الذين يمارسون أدوارهم التي ارتأوها من خارج دائرة امتهان الحرفة الإعلامية بما يعني ذلك من انتفاء هدف التكسب، أو التزلف، أو المناطحة الاصطفافية بكلِّ تفرعاتها وخلفياتها، أو غير ذلك من أفانين وضروب وتمظهرات مقاربة الرأي العام بله محاولات التأثير فيه كواحدة من المهام المفترضة للتعبير عن فعالية الوجود للكائن البشري..! فهؤلاء في العادة، يأخذون وقتهم في التفكير فلا تدفعهم العواطف، ولا المشاعر المغلِّفة للانتماء الديني، و المذهبي، والقبلي، والعائلي..؟ وهم من المفترض أنهم يتكئون على مجريات ما قبل الحدث للإحاطة بالسياق العام قبل التبصّر بالحدث ذاته..! ثم أنهم يحاولون رؤية التفاصيل الغائبة.. والجوانب المعتمة وليس الظاهرة فحسب حين يقاربون هذا الحدث أو ذاك فذلك هو الذي يسمح باستكشاف موضوعي لا سرابي قدر الإمكان لما يمكن أن ينجم، أويستجد، أو ُُيبنى على الحدث أي ما يمكن أن يحصل بعده…!
من الطبيعي أن نجد كافة المنابر الإعلامية العربية ( الفضائية والمطبوعة والالكترونية وغيرها ) العائدة ملكيتها، أو المعلنة عن انحيازها المسبق أو تعاطفها إلى جهة ما مثلاً الموالاة في لبنان، أن نجدها ترى في اتفاق الدوحة انجازاً يصل إلى حد يمكن اعتباره انتصاراً محدوداً..! فطالما أن هذا الاتفاق سيحافظ على ذات الطبقة السياسية التاريخية المعروفة، وورثتها الحاليين، واللاحقين، كما هو حال اتفاق الطائف ذائع الصيت، فكيف لا يكون هذا الانجاز من منظورها انتصاراً بيناً..؟ وطالما أن هذا الاتفاق سيكرِّس شرعية من كان حتى قبل لحظات غير شرعي.. وسيبعد شبهة العمالة واللاوطنية عنه لا بل سيجبر الوطنيين والشرعيين كما يرى الآخرون في الضفة الثانية أنفسهم، على الاجتماع الحكومي السلطوي مع العملاء والخونة، والمأجورين للمشروع الأمريكي، وتلاميذ أنظمة الاعتدال العربي، وهم بالتالي سينضوون في حكومة سيرأسها واحدٌ من العملاء فكيف لا يكون هذا انتصاراً ناجزاً….؟ وقس على هذا على هذا المنوال في هذه الضفة.!
إن مجرّد إخراج اتفاق الدوحة إلى حيز الفعل والمكاشفة سينحر كل الجهد السابق الذي بذله الجانب المعارض لتدوير الرأي العام نحو وجهة سيره، وستعود القضية لتبدو على حقيقتها من حيث أنها مسألة نهج ومصالح طبقة سياسية لها أحزابها، ومنظماتها، وأمراءها، وعائلاتها، وهو ذات النهج، وذات الطبقة، التي تبسِّمل باتفاق الطائف الذي أبرمته بمعية الحلفاء أنفسهم وكل ذلك كان يعني ولا يزال استمرارية الكيان اللبناني على ما هو عليه..! وما الحكايات عن الدولة، والتمدن، والديمقراطية، إلا محفِّزات، وشعارات، يتطلبها التكتيك السياسي الذي تمليه مجمل الظروف المحلية، والإقليمية، والدولية..! فكيف ستكون قيامة لبنان التي يتحدث عنها أصحاب كلا الضفتين على اختلاف مشاربهم من خلال اتفاقات تكرِّس ما هو قائم وتمده بنسغ الديمومة ولو إلى حين من الزمن أي إلى حين تستوجب المتغيرات على كل الصعد إعادة إنتاج اتفاق محاصصة جديد.! وقبل ذلك، هل يمكن تصور قيامة حقيقة لكيان سياسي هذه هي تركيبته الطائفية والطوائفية إن لم تنضج ظروف تتيح إنتاج اتفاق مغاير كلياً وبالجوهر لاتفاقات الطائف، والدوحة، والقاهرة عما قريب..!
من سخريات النظر أن يرى البعض من أولئك المفكرين وأصحاب الرأي وبخاصة من الذين يدعون العقلنة، والعلمنة، و( الحدثنة )، أن يروا في اتفاق الدوحة، انتصاراً لخط المقاومة.. والممانعة..! في حين أن هذا الاتفاق أتاح مرة أخرى الفرصة لرؤية كيف تمارس الأحزاب الدينية، وفقهاء، الطوائف، ومشايخ العقل وغير العقل من جهال المذاهب، السياسة والعمل السياسي.!؟ ومن سخريات النظر أيضاً وأيضاً، أن يروا في أي اتفاق لا ينتج عنه لبنان جديد كلي الجدة، أي نصرٍ.. ومن أي نوعٍ كان…!؟