د/ نصار عبدالله
فى شهر يونيو الأسود لعام …1967 ( كل شهورنا بالمناسبة قد أصبحت سوداء ، الفارق الوحيد بينها هو أن بعضها قد أصبح أكثر سوادا ) .. فى شهر يونيو الأسود لعام 1967 وفى أعقاب الهزيمة الأليمة التى حاقت بمصر وبالأمة العربية جمعاء صدر قرار رئيس الجمهورية ببدء العمل بقانون الطوارىء (القانون رقم 162 لسنة 1958) ، ومنذ ذلك التاريخ ومصر تعيش فى ظل ذلك القانون المشئوم باستثناء الفترة ما بين مايو 1980 وأكتوبر 1981، وهى فترة قدرها عام واحد وبضعة شهور عاشتها مصر بدون طوارىء إلى أن حل علينا شهر أكتوبر الأسود لعام 1981 فعادت مصر من جديد إلى ذلك العار المعروف بالطوارىء والذى كان يتجدد فيما مضى عاما بعد عام، أو بالأحرى عارا بعد عار، إلى أن تقرر هذا العام أن يصبح العار عارين بضربة واحدة وأن يتجدد القانون لمدة عامين كاملين بقرار واحد . ربما كان اغتيال السادات بعد فترة وجيزة من إلغائه لقانون الطوارىء ، ربما كان هذا من بين الأسباب التى تدفع بنظام الرئيس مبارك إلى التمسك بهذا القانون ، وربما كان من بين أسباب تمسكه أيضا هو الطبيعة البشرية التى تطلب المزيد دائما ، فرغم الصلاحيات الواسعة التى يتمتع بها رئيس الدولة فى مصر، رغم ذلك فإن سائر الرؤساء المصريين قد أثبتوا أنهم لا يكتفون بها ، ويحرصون كلما سنحت لهم الفرصة على أن يضيفوا إليها تلك الصلاحيات التى يمنحها لهم قانون الطوارىء!!، وأيا ما كانت الأسباب التى تدفع بالرؤساء المصريين ، والتى تدفع بالحكام فى دول العالم الثالث عموما إلى القول بأن البلاد قد أصبحت فى حالة طوارىء ومن ثم فرض قوانين الطوارىء عليها كلماسنحت لهم الفرصة ، أيا ما كانت الأسباب فلاشك عندى فى أن أغلب المواطنين إن لم يكن جميعهم ـ باستثناء المشتغلين بالقانون ، وبعض المعنيين بالشأن السياسى ـ لا يعرفون على وجه التحديد مدى فداحة الأحكام والتدابير التى يمنحها ذلك القانون للسلطات العامة ،.. حتى وإن شعر المواطنين بحسهم الفطرى أنه قانون غير مرغوب فيه ، ولعل تجديد ذلك القانون لعامين آخرين قادمين هو فرصة مناسبة لكى نحاول أن نقرأ معا ما تنص عليه مادتان فقط من مواد ذلك القانون المكون من عشرين مادة كل منها تنافس الأخرى فى الشناعة .
مادة (1) : وضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور، والقبض على المشتبه بهم واعتقالهم، والترخيص في تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيدبأحكام قانون الإجراءات الجنائية، وكذلك تكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال.
والحديث عن الأجزاء الأولى من المادة السابقة هو حديث مكرر ومعاد ، لهذا فإننى أدعو القارىء إلى أن يتوقف فقط عند الجملة الأخيرة من المادة السابقة التى تجيز للسلطات العامة تكليف أى شخص بتأدية أى عمل من الأعمال دون أن تورد أى قيد على هذا التكليف ، وبالتالى فإن طبيعة تلك التكليفات ومداها تظل مفتوحة إلى أى مدى يمكن تصوره بدءا من التكليف مثلا بنقل عناصرالأمن وأمتعتهم وعتادهم بوسائل المواصلات الخاصة ، ومرورا بإلزام المواطنين بإيوائهم وإطعامهم والعناية بهم، أو حتى إلزام المواطنين بأن يرقص كل منهم رقصة القرد أو أن يعجن عجين الفلاحة لمجرد الترفيه عنهم، .. وكل هذا دون أن يكون فى الأمر مخالفة لحكم القانون!!
مادة (4) الاستيلاء على أي منقول أو عقار، و تأجيل أداء الديون والالتزامات التي تستحق على ما يستولى عليه!.
ومؤدى المادة السابقة أنه يجوز للسلطات العامة الإستيلاء على ما يملكه أى شخص واعتبار ثمنه دينا على الدولة ، مع تأجيل السداد إلى ما شاء الله ! ، صحيح أن الأغلبية الغالبة من المواطنين لم تعد تملك لا عقارا ولا منقولا لكى تستولى عليه السلطات العامة ( ولعل هذه هى الميزة الوحيدة للفقر الذى أصبحنا عليه ) ، لكن هناك أيضا من يملكون ما قد يغرى السلطات العامة بالإستيلاء عليه، كذلك فإن هناك من هم أهم من المواطنين العاديين من وجهة نظر النظام الراهن، ألا وهم المستثمرون، والحقيقة أنى لا أعرف كيف يمكن لمستثمرـ مصريا كان أو غير مصرىـ أن يقبل على الإستثمار فى دولة يحكمها مثل هذا القانون ،… صحيح أن هذه المادة لم تطبق قط ، وهناك تعهد صريح من أهل الحكم بذلك، خاصة وأن أغلبهم من رجال المال والأعمال، لكن من ذا الذى يطمئن تمام الإطمئنان إلى أنها لن تطبق يوما ما؟ خاصة وأن الأصل فى القوانين جميعا أنها وضعت لا لكى تعطل وإنما لكى تنفذ وقت اللزوم .
من المفهوم ومن المنطقى أن تعيش دولة ما فى ظل الطوارىء أياما أو أسابيع أو حتى شهورا ، أما أن تعيش أربعين عاما قابلة للإمتداد إلى ماشاء الله فإنه عار ما بعده عار،.. وكل عام ، أو بالأحرى كل عار، وأنتم كما أنتم .