توقف العاهل الأردني طويلا ومليا أمام الوضع الإقتصادي في بلاده، في الخطاب الذي وجهه للرأي العام الأردني بمناسة الذكرى الثانية والستين للإستقلال، متلمسا خطورة انعكاسات الوضع الإقتصادي على أمن واستقرار البلد، خاصة في ظل الظروف الموضوعية المحيطة بالأردن في دول الجوار، حيث تباطؤ العملية السياسية في كل من فلسطين والعراق، والإنتصار الذي حققه حزب الله، وبقية أحزاب المعارضة اللبنانية في المواجهة مع قوى الموالاة، التي حسمت بعد ثمانية عشر شهرا من اندلاعها، عقب الإنتصار التاريخي الذي حققته المقاومة على العدوان الإسرائيلي.
فالملك، وبعد الإرتفاع المذهل غير المسبوق في أسعار النفط العالمية، وانعكاسه على الإرتفاع الدوري شهريا في أسعار المحروقات في الأردن، وامتناع الدول النفطية الشقيقة عن دعم الإقتصاد الأردني لهذه الجهة، بات يتحسس أخطار ذلك على الأردن، والعلاقة بين ما يمكن وصفه بالكمين، أو بالفخ الإقتصادي الذي ينصب للأردن، والإستحقاقات السياسية والديموغرافية التي تعمل قوى دولية في مقدمتها الولايات المتحدة على فرضها عليه.
هذه الإستحقاقات تتمثل في اثنين رئيسين:
الأول: فرض التمثيل المتساوي لجميع الأردنيين، بغض النظر عن اصولهم ومنابتهم، وخاصة من هم من أصول فلسطينية، فيما يمكن تسميته بالتوطين السياسي بعد تحقق التوطين السكني والمعيشي منذ 1948، وحتى الآن، مع تتابع مراحل وتطورات النكبة الفلسطينية المتعاقبة.
الثاني: فتح أبواب الأردن أمام المزيد من اللاجئين الفلسطينيين، يتم الدفع بهم إلى الأردن من الداخل الفلسطيني، كما من دول اللجوء الأخرى، وخاصة لبنان والعراق، وبدرجة أقل سوريا.
تحرير أسعار النفط والمحروقات الذي افتتحت الحكومة الراهنة برئاسة المهندس نادر الذهبي عهدها به، خفف كثيرا من حجم الكارثة الإقتصادية التي كان يمكن أن تحل بالأردن والأردنيين بدون الإقدام عليه.
الأرقام تتحدث الآن عن فاتورة نفطية تكلف الخزينة الأردنية 3ر1 مليار دينار لسنة 2008، في حالة لم لم تقدم الحكومة على تحرير أسعار المحروقات، من أصل ما يزيد قليلا عن الثلاثة مليارات دينار، هي اجمالي قيمة الموازنة العامة للدولة الأردنية. وهو مبلغ لا يمكن للأردن وموازنته أن يتحملاه.
صحيح أن المواطن الأردني هو الذي أصبح يتحمل هذه الفروقات الكبيرة في أسعار المحروقات، لكن الأصح في المقابل هو أن معدل دخل الأسرة الأردنية في ازدياد، وإن كان مقياس الفقر يحقق هو الآخر صعودا غير مسبوق، إذ أن سقف الفقر أخذ يطال الأسر التي يبلغ معدل دخلها 504 دنانير شهريا في بلد كان متوسط الرواتب فيه إلى ما قبل الاربعة عقود الماضية يقل عن العشرين دينارا للأسرة شهريا.
بالطبع الملك، وكذلك الحكومة، يضعان في اعتبارهما احتمالات حدوث ردات فعل شعبية على هذا الوضع الإقتصادي غير المحمول. وفي هذا السياق عالج الملك هذا الظرف الطارئ في خطاب عيد الإستقلال.
بدأ الملك خطابه بالدعوة إلى “ترسيخ الإستقلال الإقتصادي والإعتماد على الذات”. وهي دعوة فرضها عدم تجاوب “الأشقاء النفطيين” مع طلبات الإستغاثة المتكررة من كبار المسؤولين الأردنيين.
القناعة الأردنية هي أن ضغوطا اميركية تقف وراء هذا الصد من قبل الإخوة والأشقاء.
وأشار الملك إلى “حجم التحديات التي تحيط بهذا الوطن، وتأثيرها بشكل مباشر على اوضاعنا الإقتصادية”، معتبرا أن ذلك هو شغله الشاغل وهمه الكبير.
وكان تركيز الملك على الوضع الإقتصادي بدأ منذ مطلع عهده في شباط/فبراير 1999، حين وعد الأردنيين بتوفير علاج فعّال للإقتصاد الأردني في غضون سنتين، وهو طموح حال ضعف الإمكانات دون تحققه.
وبمواجهة هذه المعادلة المختلة، لا يجد الملك غير اللغة الحماسية يخاطب بها شعبه، يولّد من خلالها حالة من التحدي عرف بها الأردنيون. يقول الملك في هذا السياق “نحن نسير بثقة على الطريق الصحيح، وأنا واثق من قدرة اقتصادنا، وقدرتنا نحن الأردنيين، على مواجهة التحديات، أكثر من أي وقت مضى”. وأشار هنا إلى ارتفاع نسب النمو الحقيقي، والقدرة على إيجاد فرص عمل جديدة، وزيادة الإنتاجية. كما تحدث عن النجاح الذي تحقق في معالجة جانب كبير من المديونية الخارجية، التي كانت تثقل “كاهل اقتصادنا الوطني”.
وكان طبيعيا أن يتحدث الملك عن المشروع الإسكاني الذي وقف خلفه شخصيا..”المشروع الوطني الكبير”..”سكن كريم لعيش كريم”، الذي قال إنه “سيوفر المسكن المناسب، للآلاف من الأسر الأردنية، إلى جانب الإستمرار بالعمل من أجل تحسين مستوى الخدمات الأساسية للمواطن الأردني، وهي التعليم النوعي والتأمين الصحي الشامل”.
وفي عملية ربط لازمة ما بين الأزمة الإقتصادية المتفاقمة التي يعاني منها المواطن الأردني، والرفع الضروري لسقف الحريات، تناول الملك توجيهاته للحكومة، للتعاون مع مجلس الأمة، للعمل على إنجاز حزمة من التشريعات المرتبطة بالتنمية السياسية، “وخاصة تلك المتعلقة بحماية حقوق الطفل والمرأة، وتيسير الإجتماعات ا
لعامة، وتعزيز دور واستقلالية الجمعيات والهيئات الخيرية”.
لعامة، وتعزيز دور واستقلالية الجمعيات والهيئات الخيرية”.
لكنه سقط من الخطاب الإشارة إلى تعديل قوانين الإنتخاب والأحزاب والمطبوعات وغيرها، في وقت لا يلقى التعديل الشكلي الذي أدخلته الحكومة على قانون التجمعات العامة القبول الشعبي.
على كل..هذه الإصلاحات السياسية تنطلق كما يبدو من احساس بضرورة أن يقابل المشاركة في تحمل نتائج الأزمة الإقتصادية، مشاركة في التمثيل وصنع القرار، لمواجهة ما هو أخطر من الأزمة الإقتصادية..والمعني هنا هو “الصعيد السياسي والأوضاع المحيطة بالأردن”، حيث أكد الملك على هذا الصعيد “أننا نتعامل مع هذه الأوضاع والمستجدات، بمنتهى الحكمة والوعي، حفاظا على أمن بلدنا واستقراره، وحماية مسيرته ومنجزاته، وعلاقاته المتوازنة مع دول الجوار والأصدقاء”.
حديث التوازن في العلاقة مع دول الجوار يؤشر هنا بشكل واضح بالنسبة للمراقبين إلى أحاديث مراجعة الإستراتيجية الأردنية في ضوء الإنتصارين اللذين تحققا لمعسكر الممانعة والمقاومة في فلسطين، ثم في لبنان.
كما يلفت في هذا السياق عدم اكتفاء الملك في هذا الخطاب بالإشارة المعتادة إلى “واجبنا وموقفنا التاريخي الثابت، هو مساندة ودعم اشقائنا الفلسطينيين وتمكينهم من الحصول على حقوقهم، وإقامة دولتهم المستقلة”، إذ أنه أضاف إلى ما سبق “على الأرض الفلسطينية”. وهي إشارة ذكية ترفض ضمنا أي تفكير بحل للقضية الفلسطينية داخل الأردن، وعلى حسابه.
حديث المستقبل السياسي للأردن لم يعد يقتصر على التسريبات الصحفية، إنه تجاوزها إلى التلميحات الملكية.