علي الصراف
الخطاب الذي ألقاه السيد حسن نصر الله، في الذكرى السنوية الثامنة لتحرير جنوب لبنان ربما كان أكثر خُطبه كشفاً للمأزق الذي يجد حزب الله نفسه واقعا فيه.
فما كان يبدو “نصراً” مُبينا على “الأكثرية”، بانت حدوده كأقل من نصر، بل ان “السيد” لم يتردد في القول انه لا يريده أصلا.
يعرف نصر الله انه قد يستطيع سحق معارضيه بقوة “سلاح المقاومة” الذي قال (مرارا) انه لن يستخدمه لأغراض سياسية داخلية. إلا انه يعرف أيضا كلفة “نصر” كهذا.
وصل حزب الله في اجتياحه لبيروت وعالية الى حدود النصر، وتراجع عنه. لانه لم يكن يريد أن يجعل من مشروعه مشروعاً حاكما في لبنان، ولا أن يكسر قواعد اللعبة مع “التعددية” الطائفية. ومثلما رضي خصومه من الغنيمة بالإياب، فقد رضي هو أيضا بالإياب.
سوى أن إياب حزب الله ذو كلفة أبعد.
الآخرون، من معارضي حزب الله، لا يُقدّمون أنفسهم كقوة إقليمية ذات مشاريع فنتازية عظمى. وبالتالي فان إيابهم يدور في حلقة صغيرة لا شيء كبيرا ولا مهما ولا تاريخيا فيها. في حين أن إياب حزب الله يأكل من مشروعه كحركة مقاومة.
إسرائيل لم تعد على وشك الزوال، كما كان يعدنا من قبل. “السيد” لم يقل شيئا في هذا الخصوص. قال شيئا معاكسا تماما، وهو ان الأزمة التي دفعت الى حرب صيف عام 2006 توشك على الحل. فالإسرائيليون صاروا مستعدين لتبادل أسرى يمكن أن يستفيد منه أسير حزب الله الأبرز (سمير قنطار). فلا تعود هناك مشكلة. خلصت المقاومة.
وبوجود قوات دولية تحرس الحدود مع إسرائيل، فلن تكون هناك مشكلة أيضا. الإسرائيليون تعلموا الدرس، وقرروا التواضع حيال قدراتهم على سحق مقاومة مليشيات. ولسوف يتعين أن يلزم حزب الله حدوده في المقابل.
ولقد بدا من خطاب نصر الله ان “سلاح المقاومة” سيظل في منأى عن المسّ.
ولكن عدا عن انه صار سلاحا محايدا في ملعب السياسة اللبنانية الداخلية، وعدا عن انه صار سلاحا إذا انتصر يخسر، فان محنة هذا السلاح الحقيقية لا تكمن هنا، بل في مكان آخر.
السؤال الذي سيواجه حزب الله هو: ما نفع سلاح المقاومة إذا لم تعد هناك مقاومة؟
بمقدار ما يتعلق الأمر بلبنان، فبقوله “لا نريد أن نحكم”، وضع نصر الله حدا لمشروع المقاومة، ليقول انها آلية دفاع عن منطقة وطائفة، وليست بالضرورة آلية تغيير ثورية تضع لبنان برمته في خندق المواجهة مع المشروع الإمبريالي والصهيوني. لبنان، بسبب “تعدديته”، صار خارج المواجهة. والتعددية لا تعني فقط تعددية سياسات وطوائف، بل تعددية خيارات ومواقع. وعندما أعلن نصر الله إعترافه بها، فهو إنما أعلن قبوله بإمكان التعايش مع تلك الخيارات والمواقع.
وبمقدار ما يتعلق الأمر بالمواجهة التي يخوضها حزب الله، من داخل لبنان، مع إسرائيل، فهذه توشك أن تبلغ نهاية الطريق أيضا.
إسرائيل بعزمها على تفريغ شحنات المواجهة مع حزب الله، إنما تقترح عليه، من باب آخر، أن يحوّل بنادقه وصواريخه الى تحف يعلقها “سيد المقاومة” على الحائط مثلما تتعلق بنادق الصيد.
أما في إطارها الإقليمي، فمقاومة حزب الله محكومة بما تفصح عنه المفاوضات بين سوريا وإسرائيل. ومحكومة أيضا بالإطار الذي تضعها فيه “ولاية الفقيه”، التي افتخر نصر الله بانتسابه لها.
لا شيء يمكنه أن يدفع “المقاومة اللبنانية” خارج هذه الحدود. وعندما تصل سوريا وإيران الى آخر الطريق، فان مقاومة حزب الله ستصل هي الأخرى الى آخر الطريق أيضا.
سوريا تريد الجولان. وبعدها سيقال “كفى الله المؤمنين شر القتال”. ومقاومة حزب الله، في هذا الإطار، ستكون من أوائل “المؤمنين”.
ولئن كانت إسرائيل تشترط (على سبيل المزاح) ان تقطع سوريا علاقاتها مع إيران، فأنها من الحكمة بما يكفي لأن تعرف إن صفقة السلام مع سوريا، هي بالأحرى صفقة سلام مع إيران أيضا.
ومثلما تعمل إسرائيل على تفريغ شحنات المقاومة ضدها في لبنان، فانها ستعمل على تفريغ شحنات التهديدات الإقليمية. وتفريغ الشحنة السورية سيفتح، من دون أدنى شك، ثقبا أكبر من ثقب الأوزون، في صندوق الشحنات الإيرانية.
ومثل بنادق الصيد التي سيعلقها “سيد المقاومة” على حيطان “النصر” (من دون تحرير شامل)، ستعلق إيران بنادق صيدها
(صواريخها ومشروعها النووي) على حيطان “النصر”، من دون إزالة إسرائيل من الوجود.
(صواريخها ومشروعها النووي) على حيطان “النصر”، من دون إزالة إسرائيل من الوجود.
يقول مثل شعبي: “الذي تعرف ديّته… إقتله”.
والديّة التي يطالب بها حزب الله أكثر من متواضعة. وقياسا بالجولان، فانها تكاد لا تعني شيئا. وهذه الديّة هي آخر المقاومة، ليس بالنسبة لحزب الله، بل بالنسبة لكامل المشروع الإقليمي الذي يرتبط به.
لم يخصص “سيد المقاومة” حيزا كبيرا من خطابه للعراق عن عبث. فهو أراد أن يحافظ على الملمح الأخير من رونق “المواجهة” مع المشروع الإمبريالي والصهيوني في المنطقة. أراد أن يقول انه “يدعم المقاومة ضد الإحتلال الامريكي”، وان هذا الإحتلال يجب ان يرحل. ولكنه يعرف ان أولياءه في طهران ينامون في الفراش نفسه مع الإحتلال. وانهم إذا كانوا يرغبون بالطلاق، فلأنهم يريدون الإستيلاء على المنزل.
ماذا سيكون قد بقي في المنطقة، بعد هذه “المقاومة”؟
إسرائيل وبنادق الصيد وولاية الفقيه. هذا كل ما سيكون قد بقي.
لقد وصلت مقاومة حزب الله الى نهاية الطريق، لأنها لم تكن بالأحرى سوى مقاومة تعمل في سياق مشروع طائفي في لبنان، وطائفي (صفوي) خارج لبنان. مشروع لا يريد ان يحكم في لبنان، ولا يريد ان ينتصر في المنطقة. مشروعٌ يقاوم الإحتلال إذا مسّ مصالح الطائفة، وينام في فراش الإحتلال إذا تواطأ مع الطائفة.
وبالمقاييس الطائفية، فكل نصر، إذا خرج عن حدوده، هزيمة، لانه يكسر قواعد اللعبة مع التعددية. ولهذا السبب لا يريده السيد نصر الله في لبنان، ولا يريده الولي الفقيه في المنطقة.
إسرائيل نفسها لا تريده أيضا. انها طائفة أيضا. وبوصفها كذلك، فكل ما تريده هو ان تكون مقبولة كجزء من “التعددية”.