لقد أكدت نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة، وفازت بها حركة حماس، حقيقة أن المجتمع الفلسطيني بات يشهد تحولات مهمة، من خلال بروز قوى سياسية واجتماعية أفرزتها تلك الانتخابات بدخول وجوه وقيادات شابة لم تكن معروفة في السابق لدى الكثير من المراقبين، تمثلت بصعود وتمدد قوى جديدة، وضمور وانسحاب قوى الإقطاع السياسي الفلسطيني القديمة، كتلك النخب التي ُشكلت من عائلات النخبة البرجوازية في فلسطين، والتي كانت تتوزع على بعض الزعامات الإقطاعية كعائلة (الحسيني، النشاشيبي، المصري، خيري، عبد الهادي، الشوا، الخالدي، وعائلة الجعبري…..الخ).
هذه العائلات وغيرها هي التي حكمت النظام السياسي الفلسطيني – بشكل متفاوت – منذ نشوئه، وتعاقبت عليه منذ الحكم العثماني، مروراً بالانتداب البريطاني، فالأردني فالإسرائيلي، حتى مجيء السلطة الفلسطينية في بداية التسعينيات، وقد تحالفت الأخيرة مع بعض رموز تلك العائلات التي اندرجت في إطار التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية شبه الرأسمالية، وارتبطت بشكل مستمر بالدور المهيمن للعائلة على اقتصاد الصناعة والتجارة والزراعة، كما في معظم العلاقات الاجتماعية السائدة في المدن والقرى والمخيمات، وكانت تلك العائلات تلعب دوراً هاماً في تشكيل الواقع السياسي في فلسطين منذ بدايات القرن الماضي)؛ فهي إقطاعية (بالنظر إلى أن نمط الإنتاج السائد آنذاك زراعياً)، وهي علاقات أيضاً تعرضت لكثير من عوامل التشوه والتراجع في الآونة الأخيرة لأسباب عديدة حتى غابت تماماً عن المشهد السياسي الفلسطيني.
فالمتمعن في السير الذاتية المتوفرة للأسماء التي تمخضت عن العملية الإنتخابية للمجلس التشريعي الفلسطيني؛ خلال دورتين على الأقل؛ يلاحظ غياب الطبقة أو النخبة السياسية التقليدية عنها، وبروز أسماء جديدة لم يألفها الفلسطينيون بشكل خاص والعالم بشكل عام من قبل؛ فثمة تغيير للنمط التقليدي الفلسطيني في اختياره شخصيات، جرت العادة أن يتم اختيارها على أسس كانت تنتمي إلى فترة من الفهم السياسي والداخلي؛ وكأن زمام القيادة انتقلت من نخبة إقطاعية برجوازية إلى عناصر أخرى تنتمي إلى طبقات فقيرة ومتوسطة، تعود معظمها إلى عائلات فلسطينية مهاجرة سكنت مخيمات اللاجئين، مشهود لها بالنزاهة والباع الطويل في العمل الاجتماعي العام، وتحمل شهادات علمية عليا، وجزء منهم يمتهن العمل الأكاديمي أو ما جرى على تسميتهم بـ”التكنوقراط”، وليس من الصعوبة أن يلاحظ المراقب تآكل القوة السياسية الكبرى التي طبعت النظام السياسي بطابعها لعدة عقود، وقد امتزجت بها علاقات الإنتاج الاقتصادية من ناحية وعلاقات التبعية والولاءات ذات الطابع الفردي أو العشائري من ناحية أخرى؛ مبرزةً أشكالا من التفرد والهيمنة، وصعود متواصل لقوة أخرى، تتقدم بثبات وسط التآكل المطّرد للقوة التقليدية التي طبعت النظام السياسي الفلسطيني الحالي بما له وما عليه.
وعلى الرغم من الدور الرئيسي الذي لعبته عائلات الإقطاع السياسي الفلسطيني، نظراً للاعتبارات العشائرية في السيطرة على مفاصل قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية منذ انطلاق الثورة الفلسطينية في منتصف الستينيات، وتعاقبت على الحكم فيها، سيما تلك التي اتصلت مباشرة بحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح؛ إلا أن ثمة تراجع بدأ يظهر على دور تلك النخبة، فحركة “فتح”، وهي التنظيم الأكبر في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والتي كانت تضم عددا من النخبة الفلسطينية المعروفة، التي ترجع في أصولها إلى عائلات الإقطاع السياسي في فلسطين؛ برزت فيها تناقضات عديدة طفت على السطح، خاصة في الفترة الممتدة ما بين (1993-2006) عندما تحولت الحركة من الحزب القائد للثورة ومنظمة التحرير إلى حزب السلطة الوطنية الفلسطينية، وظهرت فيها أوجه الفساد المالي والاقتصادي والسياسي المختلفة، وبرزت الانشقاقات والانقسامات والأزمات التي عصفت بالحركة، وجاءت نتيجة التراكمات لفترات طويلة، تخللتها صراعات بين عدة تيارات، مثل ما يسمى بتيار الداخل والخارج أو تيار الضفة وغزة – الحرس القديم وجيل الشباب – الإصلاحيين والمستنفذين، وقضت على آمال كثير من القيادات، وأفرزت وجوهاً شابة جديدة لم تكن معروفة من قبل.
ما أريد قوله هنا، أن ثمة تغيرات طرأت على الحياة السياسية الفلسطينية ولاعبيها، ودخلت مرحلة جديدة بظهور هذه الشخصيات والوجوه الصاعدة على العمل السياسي، وقد اختلفت معالمها وخصائصها، وفق معادلة لها رموزها ولاعبيها الجدد عن تلك التي كانت سائدة حتى فترة قريبة من تاريخ النظام السياسي الفلسطيني. وكما شبهها أحد المراقبين بأنها جاءت بمثابة انقلاب ثانٍ على تلك النخبة التي حكمت في فلسطين لعقود من الزمن إذا ما افترضنا أن الانقلاب الأول قد حصل لنخبة الإقطاع السياسي الفلسطيني إبان الثورة الفلسطينية التي ساعدت على إفراز وضع جديد بوجوه جديدة تعيش ضمن مستوى الطبقات الفقيرة أو المتوسطة، يرجع معظمهم إلى عائلات فلسطينية مهاجرة، سكنت مخيمات ولها فعالية ونشاط واضحين في العمل الاجتماعي
العام، ويلاحظ أنهم من ذوي الكفاءات العلمية البارزة وفق عقلية جديدة؛ سترسم معالم مرحلة جديدة للنظام السياسي الفلسطيني، وستفضي إلى تحالفات وشراكة من نوع آخر لم تألفه الساحة الفلسطينية على مدار بضعة عقود، وستشكل بنفس الوقت إيذاناً بنهاية حقبة الإقطاعية السياسية في فلسطين.
العام، ويلاحظ أنهم من ذوي الكفاءات العلمية البارزة وفق عقلية جديدة؛ سترسم معالم مرحلة جديدة للنظام السياسي الفلسطيني، وستفضي إلى تحالفات وشراكة من نوع آخر لم تألفه الساحة الفلسطينية على مدار بضعة عقود، وستشكل بنفس الوقت إيذاناً بنهاية حقبة الإقطاعية السياسية في فلسطين.