لا تكمن أهمية المفكر المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري في كونه أستاذا للأدب الإنجليزي وأديبا ومؤلفا مرموقا فحسب، بل تتعداها لتستند على بحوثه وطروحاته المغايرة للسائد والمرتكزة على واقعية ومنهجية علمية تنبذ الشعاراتية وخصوصا ما يتعلق بموسوعته التي أصدرها تحت عنوان “اليهود واليهودية والصهيونية”.
وبرغم صحته المتعبة في الآونة الأخيرة، إلا إنه منح “الغد” جزءا من وقته للحديث، بعد أن شارك مؤخرا في ندوة نظمها منتدى الفكر العربي تحت عنوان “نهاية الصهيونية”.
* برغم موازين القوى التي ترجح دوما لصالح إسرائيل، وبرغم الفظائع المستمرة التي تلحقها بالشعب الفلسطيني، إلا إنك تستشرف دوما قرب أفول الصهيونية. هل لك أن توضح لنا الأسس التي تستند عليها في هذا الاستشراف؟
– عوامل عدة باتت تنذر بقرب اندثار الصهيونية إن لم تكن قد بدأت فعلا في هذا الاندثار، ولعل من أهم هذه العوامل انهيار الأيديولوجيا الصهيونية بحد ذاتها، إذ لم تعد هذه الأيديولوجيا قادرة على تحديد إطار فكري وعقائدي للمواطن الإسرائيلي، فحتى وقت قريب كانت الصهيونية تقنع رعاياها وجنودها بأن ما يفعلونه بالشعب الفلسطيني لا يعدو كونه دفاعا عن النفس، لتنكشف هذه الادعاءات وتتعرى بحقيقتها السوداء أمام الإسرائيليين أنفسهم.
عامل آخر وهو تحول اليهودية في المجتمع الإسرائيلي من عامل وحدة إلى عامل فرقة، إلى جانب تزايد أعداد العلمانيين بطريقة لافتة للنظر في المجتمع الإسرائيلي، وحتى المتدينيين منهم لم يعودوا قادرين على تقديم إجابات مقنعة عن معتقداتهم الدينية التي تحركهم ضد الشعب الفلسطيني.
كذلك بالنسبة لسيطرة النزعة الاستهلاكية والمادية على الإسرائيليين إلى حد بات يصعب فيه مقاومة إغراء المادة والتضحية بها من أجل التواجد في إسرائيل، كما أن الفساد المستشري في المجتمع والقيادة الإسرائيلية بات يؤثر بقوة على العقيدة العسكرية لدى الجيش، فالمجندون الإسرائيليون أصبحوا يتساءلون عن جدوى تعريض أنفسهم للمقاومة الفلسطينية الضارية مقابل اختباء قياداتهم وفسادها الذي أزكم الأنوف.
وإلى جانب كل ذلك ثمة عوامل أخرى منها الأمراض النفسية المستشرية في صفوف الجيش الإسرائيلي الذي قوضت المقدرة القتالية لديه من خلال استنزافها في قمع الانتفاضة وهو ما يفسر هزيمتهم على يد حزب الله عام 2006.
وبالنظر لحقائق وأرقام عدة لا تلبث أن تنكشف مهما حاولوا التستر عليها وهي شراء الأشكناز (يهود أوروبا) شققا في أوروبا بشكل متزايد في الآونة الأخيرة إلى جانب تقدم آلاف منهم بطلب جوازات سفر أجنبية، عدا عن إعرابهم المستمر من خلال الإحصائيات التي تجري في إسرائيل عن رغبتهم في الهجرة من المجتمع الإسرائيلي بسبب عوامل عدة من أبرزها غياب الأمان.
كذلك الحال بالنسبة للأمراض الاجتماعية المتفشية في المجتمع الإسرائيلي ومنها الإباحية التي لم يعد مركزها تل أبيب فقط، بل وحتى القدس نفسها إلى جانب انتشار الجريمة المنظمة في إسرائيل.
وهنالك أيضا العامل الديموغرافي أو ما نسميه ب “صراع الأرحام”، إذ إن المرأة الفلسطينية مسجلة منذ الثلاثينيات كأكثر نساء العالم خصوبة بعكس المرأة الإسرائيلية التي لا تكاد تذكر نسبة إنجابها أمام الفلسطينية.
وحتى المستوطنات التي تتكاثر في فلسطين أنتجت ما يسمى ب “الأزمة الاستيطانية”، إذ إن من هم مخطط لهم للسكن فيها باتوا يهاجرون ويفكرون بالهجرة بشكل لافت للانتباه.
وحتى قياداتهم صرحت أكثر من مرة باستحالة ديمومة الكيان الإسرائيلي ما لم توجد دولة فلسطينية قابلة للحياة، وهو ما أشار إليه أولمرت أخيرا ، كما أن رابين تنبأ باندثار إسرائيل منذ العام 1973 عندما ربط بين الغزو الصهيوني والصليبي الذي لم يتبق منه غير خرائب على أرض فلسطين.
وبرغم التسليح الإسرائيلي الرهيب والذي تصب له المليارات، إلا إن المشكلة لا تكمن في عدد الدبابات بل في من يقود الدبابة وهو الذي يصعب إجباره على اعتناق عقيدة الاستشهاد من أجل الأرض, وبذلك ينتصر الطفل الفلسطيني الذي يتصدى بحجره للآلة العسكرية الإسرائيلية على كل هذه المليارات التي تغدق على التسليح.
* ولكن ما رأيك بالتكهنات الدائرة عن ضربة عسكرية محتملة لإيران أو سورية؟
لا أعتقد أن ذلك سيحصل، فالجيش الإسرائيلي تلقى “علقة سخنة” في حربه مع حزب الله في صيف 2006، وكذلك الجيش الأميركي الذي لن يزج بنفسه في حرب جديدة بعد ورطته في أفغانستان ثم العراق.
* تكاد تكون جازما فيما يتعلق بنصر حزب الله في صيف 2006 رغم التشكيكات التي طالت هذه المعلومة، على أي أساس استندت في ذلك؟
أؤمن بأن حزب الله انتصر وأوقع خسائر فادحة في الجيش الإسرائيلي وهذا ليس كلام افتراضي بل بناء على شهادات الإسرائيليين واعترافاتهم. وفي هذا المقام أشير إلى أن أحدا ممن يشككون في نصر حزب الله لم يطّلع على الصحافة الإسرائيلية التي اعترفت بخسائر جيشها، وهذا يدل على أن الهزيمة “متعششة” في نفوسنا حتى ولو اعترف العدو بعدم انتصاره.
وهنا أذكر تصريحا للسيد حسن نصر الله قال فيه ان إسرائيل أوهن من خيوط العنكبوت في حقيقتها، فما كان من جريدة “الأهرام” المصرية إلا أن نشرت هذا التصريح على هامش قصي في إحدى صفحاتها وكأنه خبر عن الانتخابات البلدية في الموزمبيق! وكذلك الحال بالنسبة للمقاومة الفلسطينية التي أرى أنها تتمثل حاليا في صواريخ القسام التي يهزأ منها العرب، بينما لا يتابعون الصحف الإسرائيلية التي تعترف يوميا بالخسائر الفادحة التي توقعها.
وحتى تحليلاتي هذه لا تجد طريقها إلى الصحف العربية رغم أني لا أستند فيها إلا على اعترافات من فم العدو نفسه، إلى جانب حقائق تاريخية وعلمية بحتة، لذا فأنا أرفض تسميتي بالمتفائل، كما أني لست مسؤولا إن كانت تحليلاتي هذه تصيب البعض بالتفاؤل. الأمر وما فيه أنني أقدم طرحا مغايرا لما هو سائد من تثبيط للمعنويات وإخماد لروح المقاومة.
* إذاً أنت مع المقاومة، وخصوصا الفلسطينية المتمثلة في حماس وحزب الله؟
أنا مع المقاومة وكذلك المفاوضات، إذ إن كلتيهما مهمتين، وخصوصا المقاومة لأن الغرب ليس مجتمع علماني فحسب، بل أعتبره مجتمع وثني لا يفهم غير لغة القوة التي توقع أضراراً فتجبر المعتدي والمحتل على الانسحاب.
كذلك أنا لست مع طرف ضد الآخر، بل أنظر حتى لاختلاف وتنوع الفصائل الفلسطينية المقاوِمة نظرة إيجابية، إذ إن زمن المركزية
في الإدارة والقيادة ولىّ إلى غير رجعة، وبالتالي فالتنوع نعمة من شأنها التضييق على المحتل من شتى المنافذ كما أن اختراقها في هذه الحالة يكون صعبا. وأود أن أشير هنا إلى أنه إذا قبلت إسرائيل بالتهدئة حاليا فستكون حماس تلقائيا هي السلطة الفلسطينية.
في الإدارة والقيادة ولىّ إلى غير رجعة، وبالتالي فالتنوع نعمة من شأنها التضييق على المحتل من شتى المنافذ كما أن اختراقها في هذه الحالة يكون صعبا. وأود أن أشير هنا إلى أنه إذا قبلت إسرائيل بالتهدئة حاليا فستكون حماس تلقائيا هي السلطة الفلسطينية.
ما أود الوصول إليه هو أن عوامل قوة إسرائيل هي عوامل خارجية بحتة تتمثل في الدعم الغربي اللامحدود وكذلك الضعف والتخاذل العربي اللامحدود، لذا فإن الوسيلة المثلى للقضاء على الكيان الصهيوني تتمثل في إبطال قوته من الخارج أي عن طريق المقاومة، وليس انتظار انهيار هذا الكيان من الداخل لأنه منهار أصلا لولا العوامل الخارجية.
* إذاً أنت ضد الطرح الذي تقدم به مفكرين أمثال إدوارد سعيد، وهو الطرح الذي يتحدث عن “دولة ثنائية القومية” في ظل التعنت الإسرائيلي الحالي؟
نعم أنا ضد هذا الطرح ولا أؤمن بجدواه، إذ لا حل غير المقاومة المسلحة لاسترجاع الحقوق.
* وماذا عن تزعمك لحركة المعارضة المصرية “كفاية”؟
يضحك قائلا: ها هي الحكومة تعلن وفاتنا في الصحف كل أسبوع، ومؤخرا باتت تروج أن اليهود التفوا على المسيري.
وكنت قد صرحت مرارا بأن الحكومة المصرية بلهاء، إذ يعتقلوننا دوما بعد كل مظاهرة نشارك بها ضد الغلاء وغيره من القضايا لنعود مرة أخرى لنفس الأمر بعد أيام. وهنا أذكر ما فعلوه بي آخر مرة عندما تظاهرت في السيدة زينب ضد الغلاء، فما كان منهم إلا حشد قوات أمن ضخمة، حتى أن زوجتي قالت لهم: لو الإسرائيليين هجموا دلوقتي حنكسرهم من كترتنا. وعندما رفضت الانسحاب أقلوني في سيارة إلى ثلاثين كيلو مترا بعد القاهرة، وتركوني وزوجتي في طريق مقطوع هناك حتى أشرنا إلى شاحنة نقل أعادتنا مرة أخرى، وبعد ذلك بأيام عدنا لنفس الكرّة معهم كما باقي المتظاهرين.
* وكيف هو المسيري هذه الأيام؟
أعد نفسي محاربا على ثلاث جبهات في الوقت الراهن: الأولى هي جبهة الصهيونية والثانية هي الحكومة المصرية والثالثة هي السرطان اللعين الذي أصابني، ولولا كل ذلك لكنت ناقدا فنيا