تشعر أحيانا انك تكرر نفسك، ولكن لا باس من التكرر، لان للتكرار وظائف كثيرة ومنها إقناع نفسك انك على قيد الحياة، وخاصة إن هناك من ينظر إليك كميت وعلى الميت لا تجوز إلا الرحمة، ولا باس من إحياء ذكرى السنة لهذا الميت الذي حنطة البعض ووضعه في فترينة لها فعل بئر النفط للبعض الفلسطيني الذي بات يعرف من أين تؤكل الكتف.
جاءت الذكرى الستون للنكبة الفلسطينية، وكالعادة امتشق ونفض عن كأهلة غبار العام الماضي وأعلن أن العودة حق لكل من هجر من بيته، وان هذا الحق ليس للبيع ولا المتاجرة وأنة ثابت كما الجبال في وجه العاصفة التي اقتلعت ما اقتلعت من ثوابتنا وثقافتنا الوطنية، عاصفة استهدفت الإنسان الفلسطيني جسدا وروحا وفكرا تهدف اجتثاث ما تبقى فبنا من كرامة وإيمان تسلل لقلوبنا في سني الاحتلال.
المشكلة التي نعاني منها نحن اللاجئون فقدان التواصل مع ذاتنا وسيادة العمل النخبوي الذي لا فعل له على الأرض، ولا إميل إلى الانجرار وراء سراب الفعاليات الانتقائية رغم أهميتها، لان ديمومة الفكر اللاجئ لا يمكن أن تتغذى وتنمو بالفعاليات الموسمية على اعتبار أن ذاكرة اللاجئ مستهدفة بشتى الوسائل المستخدمة بحنكة المعتمدة على العلوم الاجتماعية والتقلبات الطبقية في أوساط اللاجئين الذين أصبحت لبعضهم مصالح من الصعب التنازل عنها.
بالعربي، لا يمكن التعاطي مع ذكرى النكبة الكبرى كتظاهرة لها حدود، لان النكبة مستمرة طالما الاحتلال موجود، هذا الاحتلال الذي يبذل جهودا جبارة لاختراق الوعي الفلسطيني والقناعة بان التمسك بحق العودة يعبر عن عقلية قديمة لا تعي متغيرات المرحلة التي تتطلب اعتماد الواقعية الأمريكية في مناقشة الأشياء، وللأسف هناك من تورط في هذا النوع من التفكير وباشر بطرح المبادرات الغير بريئة حتى وان كان عمرها قصير إلا أنها تعكس حالة من النشاز والتشويش على حالة الإجماع التي كانت سائدة فلسطينيا.
ما العمل، ما السبيل إلى لملمة الأوراق وإعادة القطار على السكة، وكيف يمكن إخضاع النخب للرقابة الشعبية الغائبة، وهل أصبحت المؤسسات الفاعلة في أوساط اللاجئين الفلسطينيين على المحك العملي الذي يفرض عليها اتخاذ سياسات منسجمة مع المجموع العام المتعطش لاستعادة الدفة وإرساء الأسس لثقافة تعزز التواصل بين الأجيال بعيدا عن العفوية التي حولت تجمعات اللجوء لمجرد صدى لأجيال أصبحت في ذمة الله.
أرى أن المخاطر تحدق بقضية اللاجئين، وبتحديد أكثر لا نحتاج لزرقاء اليمامة لرؤية المشهد اللاجئ في العام القادم أو الذي يليه، لان المفاوضات الجارية تمهد الطريق لتخريجه غير عادلة لقضية اللاجئين، ولا نحتاج لذكاء للوقوف على الخطاب الإسرائيلي والأمريكي الذي يواجه مواقف فلسطينية خجولة قد تفرض عليها تسوية تستثني حق العودة، وهذا ما يطبل ويزمر له الإسرائيليون وحلفائهم ليل نهار، مما يستعدني إعلان حالة الطوارئ والاستنفار في الأوساط الوطنية الفلسطينية وبالتحديد في المخيمات التي تشكل رأس الحربة للدفاع عن حقوقنا المشروعة.
قبل أيام اتصل بي صديق هاتفيا وقال لي مات المفتاح، قلت له ماذا تقصد، قال مات أبو إبراهيم- محمود عبيد، قلت وبعض الأصدقاء بالفعل مات المفتاح، أو زيتونة المخيم كما اسماه البعض، وقد عاش “المفتاح” أي أبو إبراهيم 111 عاما، وكان يشارك في كافة فعاليات النكبة الفلسطينية وشاهدته عندما زرع مفتاح العودة على بوابة العودة على مدخل مخيم عايدة، سلم المفتاح لحفيدة وتلي وصيته، كان قويا لدرجة أننا اعتقدنا أن الموت لا يجرؤ على الاقتراب منة، مات المفتاح الذي كان عنوانا للباحثين عن الحقيقة وللصحفيين، وهو الذي شكل تاريخا حيا يحكي قصة اللجوء والمذابح التي ارتكبت عام 1948 وممارسات الأتراك والحياة الفلسطينية في القرية ومن بعدها المخيم.
مفتاح المخيم عاد إلى الأرض ليلحق بمئات المفاتيح التي ماتت قهرا في صحراء اللجوء، وبقي في المخيم بضعة مفاتيح سيطويها الزمن قريبا، لكنهم سلموا مفتاح العودة للأحفاد، والمفتاح كما الخيمة، أنة اكبر من مجرد مجسم فهو البت والذكريات والحق الفلسطيني، أنة المفتاح السحري لأحلام تائهة منذ ستون عاما، أحلام قد تندثر في ظل انقطاع التواصل والاستمرارية والفعل المؤسساتي المناهض لكل من يجرؤ على المساس بحقنا، ولنتذكر أن” أبو الخيزران” بطل رواية رجال في الشمس للأديب الفلسطيني غسان كنفاني حاضرا بيننا، وهو الذي اخصتة المرحلة وبات يتاجر بكل شيء، وهو الذي قال لماذا لا تقرعوا جدران الخزان؟؟؟؟؟.