المسلمون في الغرب بين الحتمية الواقعية والتفسير الديني بقلم/التجاني بولعوالي باحث مغربي مقيم بهولندا نائب رئيس جامعة لاهاي العالمية للصحافة والإعلام التشخيص الممكن لوضعية المسلمين في الغرب لم يوجد المسلمون في الغرب صدفة، وإنما حصل ذلك نتيجة عوامل شتى، أهمها حاجة الغرب إلى اليد العاملة، التي سوف يستوردها من دول العالم الثالث لتؤدي بعض الأدوار التي لا يتوفر لدى المجتمع الغربي من يقوم بها، أو لا يرضى الغربي بأدائها، أو أن شيخوخة ذلك المجتمع وهرمه تلحّ عليه التفتيش عن سواعد شابة وفتية، تعوض ذلك النقص الناتج عن تلك الوضعية، تنضاف إلى ذلك جملة من العوامل الثانوية، كالدراسة والاضطهاد السياسي والاستثمار وغير ذلك، وما يسترعي الانتباه هو أن الغالبية العظمى من مهاجري العالم الإسلامي إلى الغرب، تشكله اليد العاملة التي تغلب عليها الأمية وانعدام الخبرة العلمية والعملية، مما يؤثر سلبا على نوعية الأداء الذي تقدمه الجالية الإسلامية، سواء على صعيد الحياة الأسرية، حيث تفشي ظاهرة الطلاق وغياب التربية الممنهجة والموجهة للأولاد، أو على مستوى العلاقات العامة، حيث يعاني الكثيرون من مشاكل جمة في المدرسة والعمل ومع شتى المؤسسات الإدارية والحكومية، واستفحال هذه المشاكل يولد قطيعة عميقة في التواصل مع المجتمع الغربي، مما يدفع أعدادا من المسلمين إلى تشكيل (غيتوهات) والانعزال فيها. هذه الوضعية غير الصحية التي يوجد فيها العديد من المسلمين في الغرب، تعزى من جهة إلى غياب الوعي اللازم لهؤلاء سواء بالذات أو بالهوية أو بالآخر، وهذا الغياب للوعي يوقعهم في مأزق الانغلاق والتقوقع، الذي يترجم باسم الدين الإسلامي أو الثقافة الشرقية، وهذا تأويل مغلوط، لأن كلا من الإسلام والثقافة المندرجة في إطاره لا يدعوان بالمطلق إلى الانعزال عن العالم، والاعتكاف الأزلي في الصوامع، بقدرما يحثان على العزوف عن الرهبانية والوحدة والتزمت، ويحضّان على التعارف الموسع بين كل البشر، ومن جهة أخرى تعزى إلى أن اليد العاملة هاجرت إلى الغرب، وهي مسكونة بفكرة العودة إلى الوطن، لما تتمكّن من جمع بعض المال، لكن هذا الحلم سرعان ما تبدد أمام تحديات جديدة لم توضع من قبل في الحسبان، وهي تحديات مرتبطة بجوانب عدة، أهمها الأبناء الذين ولدوا وتربوا ودرسوا في الغرب، فصاروا أكثر تشبثا به، لأنه إن لم يكن وطن آبائهم الأصلي، فهو وطنهم بالولادة والانتماء واللغة وغير ذلك، ثم لا تخفى عن أحد حالة الأوطان التي هاجر منها الآباء، وهي حالة لا تنم عن الاستقرار والأمن والضمانة، وغير ذلك من الجوانب. ومع ذلك يظل الحنين إلى الأصل قائما، ويبقى حلم العودة يراود جزءا عظيما من الجالية المسلمة، وهذا من شأنه أن يُثبّت أكثر تلك الوضعية غير الصحية التي أشرنا إليها سالفا، خصوصا وأن ذلك الجزء العظيم من المسلمين الذين يحلمون بالعودة، عوض ما يصرف جهده وتفكيره في بناء حاضره، وتحسين وضعيته الراهنة، والتخطيط لمستقبل أبنائه في الغرب، فإنه يستمر في حرق أوقاته وأعصابه بالتفكير في الوطن، والبكاء على أطلاله! كذلك، لم يوجد المسلمون في الغرب عبثا، حقا إن مجموعة كبيرة منهم تولي كل الاهتمام لتحسين وضعها الاقتصادي والاجتماعي، وتوفير أسباب الحياة المادية، التي يُزعم أنه بها تتحقق لهم تلك السعادة المفقودة في أوطانهم الأصلية، لكن لما تهيأت لهم تلك الأمنية، ازدادت درجة شقاوتهم ومعاناتهم، فأدركوا أن السعادة التي ينجرّون خلف بصيصها، لا تعدو أن تكون مجرد سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء! وهم لا يدرون، أو يتغافلون عن أن السعادة الحقيقية لا تكتمل إلا في ذلك الجانب الروحي والمعنوي من عقيدتهم وثقافتهم، وهو نفس ما تفتقده الحضارة الغربية التي استعبدتها المادة والآلة، حتى صار الإنسان مجرد رقم في معادلة غير مفهومة، يعبث بمصيره المجهول، وعلى نفس المنوال يمضي العديد من المسلمين الذين يكتفون بالحياة في جانبها المادي، وهم لا يعلمون أنهم لم يخلقوا عبثا، ولم يلق بهم القدر في الغرب عبثا، وإنما لحاجة عظيمة، وهو توصيل الرسالة التي أنيطت بهم إلى تلك البقاع التي استقروا بها. وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أن وجود المسلمين في الغرب ليس شيئا طارئا أو مؤقتا، يمكن أن يُسمى ظاهرة عارضة أو سحابة صيف عابرة، كذلك الوجود القديم بالجزيرة الإبيرية أو بعض مناطق أوروبا الشرقية، وإنما وجود نوعي ينبئ بأنه سوف يمتد ويترسخ، وسوف يجعل من المسلمين، وبالتحديد الأجيال الصاعدة التي ولدت في المهجر، مع مضي الوقت، شبه سكان أصليين، وفي المستقبل القريب الذي يمكن حصره في أقل من حوالي ثلاثة عقود على الأكثر، يصبح الإسلام بأوروبا – على سبيل المثال- ممثلا بأولئك الذين ولدوا بها، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الجيل الأول/جيل الأباء الذي هاجر إلى الكثير من دول أوروبا الغربية والشمالية عقب خمسينيات القرن السابق سوف يندثر، ويشيخ الجيل الثاني، الذي، بعد ما يعادل النصف قرن من الآن، سوف يندثر بدوره! وهذا يعني أن الدور سوف ينتقل إلى الجيل الذي لا يربطه بالأوطان الأصلية، التي هاجر منها المسلمون الأُوّل نحو الغرب إلا آصرة واحدة، وهي أنها تمثل أصل آبائهم وأجدادهم، علما بأن مثل هذه الآصرة سوف تأخذ مع مرور الوقت طابعا تذكاريا، حيث بدأ الآن العديد من أبناء المهاجرين المسلمين يرفضون قضاء العطل مع ذويهم في الأوطان الأصلية، فما بالك بعد مضي بضع عقود وموت الأباء! فيتلاشى بذلك نهائيا أ
ي حنين إلى الوطن، ويتبدد أي تفكير في العودة، وهكذا يكتمل استقرار المسلمين بالغرب ومن دون رجعة. ثم إن وجود المسلمين بالغرب من غير رجعة إلى الأصل، يمنحه طابعا مصيريا، فالأقلية المنعزلة الخائفة على هويتها وعقيدتها وثقافتها، تعيش بين ظهراني أغلبية منفتحة تنظر إلى الأقليات التي استوطنت بلادها، تارة بعين الشفقة ما دامت أنها هاجرت إليها هربا من المجاعة والاضطهاد، وتارة أخرى بعين الريبة والتخوف من امتداد واستمرار الوجود الأجنبي الذي بدأ يحمل بذور التطرف والفوضى والتهديد، وهذا ما يجعل الأغلبية المهيمنة تحاول بكل أدواتها السياسية والاقتصادية والثقافية جعل الأقلية المنطوية والمنغلقة أمام أمر الواقع؛ إما أن تقبل قيم الغرب وتقاليده فتندمج أو تنصهر، فتجني بذلك قطوف الاستقرار والضمانات الاجتماعية والسياسية المتنوعة، لكن على حساب هويتها وعقيدتها ورسالتها، وإما أن تتمسك بقيم الإسلام وتقاليده، وتعتصم بتعاليم عقيدتها وخصائص هويتها، فتحجم عن أي اندماج في بوتقة الثقافة الغربية، فتجني بذلك أشواك العنصرية والاحتقار والدونية، فتخسر حاضرها ومستقبل أبنائها. التفسير الديني المعتدل لوجود المسلمين في الغرب هكذا، يحس أغلب المسلمين المستقرين بالغرب أنهم أمام خيارين أحلاهما مر! إما الاندماج أو الإحجام، إما الانفتاح المشروط أو الانغلاق، إما ثقافة الغرب التي تضمن لهم العيش الكريم والاطمئنان، أو قيم الإسلام التي تجلب لهم سخط الغرب وعدم رضاه، وتكاد مثل هذه الرؤية ذات البعدين: الأبيض والأسود تهيمن على بنية التفكير السائد لدى المسلمين الموجودين في الغرب، باستثناء قلة قليلة استطاعت أن تشكل رؤية ثالثة، تستوحي خطوط التماس الإيجابية، التي تحجبها أحكام القيمة التي يكونها كل طرف عن الآخر، حيث بالاستناد إلى تلك التماسات أو القواسم المشتركة يمكن التوصل إلى صياغة ثقافة مشتركة بين الطرفين، ثقافة مبنية على قيم إنسانية ينتفي فيها التعصب الديني أو الأيديولوجي، ثقافة مسكونة بهموم الإنسان النفسية والاجتماعية والثقافية، وهي هموم تتخطى كل الحواجز الإثنية والعقيدية والأيديولوجية وغير ذلك، ولإرساء مثل هذه الثقافة يمكن أن نستوحي كل ما راكمناه من موروثات أخلاقية وحضارية، يأخذها المرء من الدين الذي يؤمن به، أو من المنظومة الثقافية والفكرية والاجتماعية التي يندرج فيها. ولا يتسنى هذا التعامل الإيجابي مع الغرب، إلا عبر آليات التحاور التوافقي والتعايش والانفتاح والتعاون ونحو ذلك، ويبدأ ذلك من أصغر مكون للمجتمع، وهو الفرد الذي يبادر بفتح كل قنوات التواصل المتاحة، بدءا من العمارة التي يسكن فيها، وصولا إلى المبنى الذي يعمل أو يدرس فيه، وهذا يعني أن هذا الفرد المسلم إذا ما انتهج ثقافة المعاملة كما أرساها الإسلام، سوف يضرب بعرض الحائط قيم الغلو والانغلاق والتزمت، التي تسربت إلى مجتمعاتنا من جراء الفهم الإسقاطي والتأويل الحرفي للنصوص الإسلامية، قرآنية كانت أو حديثية، ويؤسس لفهم وسطي يأخذ بعين الاعتبار الآخر غير المسلم، الذي يشاركه في الإنسانية والوجود على الأرض، وبهذا التجاوز للجانب المتشدد في منظومة التفكير الإسلامي، يتمكن من التجاوب ولو النسبي مع ثقافة الغرب الذي يوجد فيه، فتتراءى في الأفق علامات التعايش بين المسلمين والغربيين، وعن طريق ذلك تتسنى إمكانيات توصيل جانب من رسالة الإسلام، التي تحفز على تعارف البشر وتكافلهم وتضامنهم، فلا يصبح وجود المسلم في الغرب عبثا، أو من أجل بعض الأغراض الدنيوية التافهة الزائلة، بقدرما يصير كل مسلم بمثابة سفير للإسلام حيث لا يوجد الإسلام. وفي هذا الكلام رد على ثلة من الدعاة الذين يفتون، تارة بعدم جواز الهجرة أو الاستقرار بالغرب لأنه يشكل دار حرب! وتارة أخرى بحرمة نيل الجنسية الغربية، لأن ذلك ينطوي على ولاء معلن للغرب. لكن، لا يتساءلون عند الإدلاء بمثل هذه الفتاوى عن مصير أكثر من 50 مليون مسلم بالغرب، ولا يتساءلون كذلك عن أنه بواسطة هؤلاء المهاجرين أضحى الإسلام معروفا وموجودا في عقر دار الغرب، بل وأمسى العديد من الغربيين مهيئين لتقبل هذا الدين والدخول فيه، وأخيرا، لا يتساءلون عما لو كان ينطبق على المَهَاجر، التي شد إليها المسلمون الرحال مصطلح دار الصلح أو المعاهدة، مادام أنها استقبلت أفواج المسلمين، فأحسنت إليهم بالعمل والمأوى وغير ذلك، فهي مع كفرها المعلن لا تكن للمسلمين على أرضها عداء صريحا، وإن كانت ثمة بعض المواقف التي تخفي خلفها ما يشبه العداء. وحتى يتضح هذا الأمر أكثر، أورد في هذا الصدد رأيا يحسم فيه العلماء هذه القضية، ولا يدعون مجالا لبعض الفتاوى التي تظهر من فينة لأخرى، لتعكر صفو المسلمين الموجودين في الغرب، وتزيد من شدة حيرتهم وعدم استيعابهم للشرخ الكائن، سواء بين آراء العديد من العلماء وواقع الحياة، أو بين هذه الآراء ذاتها. وهذا الرأي يقول فيه أصحابه، وهم مجموعة من المفتين: “إذا وَجَدَ المسلم أن بقاءَهُ في دار الكفر يُفيد المسلمين الموجودين في دار الإسلام، أو يُفيد المسلمين الموجودين في دار الكفر بمثلِ تعليمِهِمْ وقضاءِ مصالحهم، أو يُفيد الإسلامَ نفسَهُ بنشرِ مبادئِهِ والرد على الشُّبَهِ الموجهَّةِ إليه ـ كان وُجُودُهُ في هذا المجتمع أفضلَ من هجره، ويتطلب ذلك أن يكون قويَّ الإيمانِ والشخصيةِ والنفوذِ حتى يُمْكِنَهُ أنْ يَقومَ بهذه المهمة. وقد كان لبعض الدعاةِ والتجار في الزمن الأوَّلِ أَثَرٌ كبير في نشر الإسلام في ب
لاد الكفر”. إذا كان، إذن، قسم لا يستهان به من العلماء، يثبت أن وجود المسلمين في الغرب فيه فائدة عظمى للإسلام، سواء من حيث الاستفادة المادية والاقتصادية أو الفكرية والعلمية أو الدعوية، فإنه يشترط في ذلك تحلي المسلمين بقيم الإسلام السمحة وأخلاقه الكريمة، وتجنبهم لكل اصطدام أو مواجهة من شأنها أن توقعهم في دوامة الصراع غير المثمر، الذي لا يخدم الإسلام في شيء، وهو صراع كثيرا ما يكون مبطنا بمشاعر العداء والشحناء والضغينة والكراهية لكل ما هو غربي، في حين أن الإسلام يرفض مثل هذه الأخلاق السيئة والمنحرفة، ويدعو إلى التعامل بالحسنى مع سائر البشر، وإن كانوا غير مسلمين، وخير ما يجسد هذا الشق من علاقة المسلمين مع غير المسلمين، هما الآيتان الكريمتان 8 و9 من سورة الممتحنة، حيث يقول سبحانه وتعالى: { لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَن الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين َ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}. إن هذا النص القرآني يمثل دليلا قاطعا على أن علاقة المسلم بغير المسلم أمر مطلوب، إذا كان ذلك لا يسيء إلى العقيدة الإسلامية في شيء، وإذا كان أيضا ذلك الذي يتعامل معه المسلم لا يكنّ أي عداء للإسلام، ولا يشكل أي تهديد للمسلمين، لذلك فالشرع يحفز على إبقاء الارتباط معه، بل ويضفي على ذلك مزيدا من الشرعية، عندما يأمرنا بالإحسان إليه والعدل معه.