الطاهر العبيدي *
تجديد بطاقة الإقامة – السكن – الشغل – التسجيل الجامعي-التأمين الصحي – اختيار الجامعات – العودة الاستقرار…
تلك هي بعض عناوين هموم الطلبة المهاجرين هنا بفرنسا، هؤلاء الموزعين بين هنا وهناك، بين هاجس العودة والرغبة في الاستقرار، والمشتتين بين الشغل والدراسة، بين الحلم اليانع والواقع الكالح، بين معاناة الحاضر وضبابية المستقبل، والموزعين بين التعب والإرهاق، بين أحلام الآتي وملوحة الآني، وبين هذه التناقضات المتقاطعة تتراصف الأسئلة المزدحمة؟؟؟ ما هي مشاكل الطلبة القادمين من الضفة الأخرى؟ لماذا الإقبال المتزايد من طرف الطلبة على الدراسة في الخارج وتحديدا فرنسا؟ ما هي الآفاق المتاحة بعد التخرج؟ لماذا يفضل الأغلبية الاستقرار بدل العودة إلى بلدانهم بعد إنهاء دراستهم؟ ما هي الأوضاع المعيشية والواقع الإداري؟ ما هي الفرص المتاحة أمام الطلبة المهاجرين؟ العوائق والمعاناة ؟ فرص النجاح ومواضع الإخفاق؟…
لمعرفة ملامح هذه القضايا، نحاول هنا استجلاء بعض التحديات، وتسليط الأضواء حول هواجس الطلبة المهاجرين بفرنسا، اعتمادا على المعاينة الأرضية، والتوغل في ملامسة الهموم الواقعية.
بداية الهموم والمتاعب
تبدأ هموم الطالب قبل مجيئه إلى فرنسا، بالبحث والتنقيب عن الترسيم في إحدى الجامعات الفرنسية، وهذه العملية تتطلب الكثير من الجهد والمعاناة، والتخبط بين أكداس الأوراق الإدارية والعراقيل المضنية، يضاف إلى ذلك اللهث وراء التأشيرة الدراسية، ومثل هذه المجهودات تنهك الطالب، الذي يأتي إلى فرنسا محمّلا بأكياس من الأحلام والطموحات، مخلفا ورائه عائلة تحلم هي الأخرى، بأن هذا الابن سيأتي لها بمفاتيح كسرى وكنوز فارس…وحين يصل إلى هنا ترتطم كل هذه الآمال على جدار الواقع، ومنذ البداية تبدأ رحلة العذاب، ويكون العائق الأساسي السكن، الذي يرتبط بعدة شروط لا تتوفر عند هذا الطالب ” الكحيان ” الذي لا دخل له، سوى أحلاما مؤجلة وآمالا يانعة، لا تصمد أمام فواتير آخر الشهر، في مجتمع لا يؤمن بالغيبات، وهنا يجد الطالب نفسه أمام مسلسل من العوائق، بالإضافة إلى أن هذا الطالب الذي لا تجربة مهنية له، يجد نفسه فجأة مقذوفا في مجتمع غير مجتمعه، وفي بيئة لا يعرف عنها سوى ما درسه في بعض الكتب أو عبر الفضائيات، لهذا تكون بداية التخبط والاكتشاف، التي تعترض الطالب، أولها تجديد بطاقة إقامته، والتي تخضع لعدة شروط، وقع تشديدها أكثر بعد صعود اليمين صعود اليمين إلى منصة الحكم، التي تتطلب وجود عقد شغل لساعات محددة لا تتجاوز عشرين ساعة في الأسبوع، والاستظهار بما يثبت حقيقة وليس خيالا متابعة الدراسة وعنوان السكن والدخل الشهري والتأمين الصحي، ورغم قائمة المعاناة الطويلة، فإن الكثير منهم يتمكنون من النجاح والحصول على شهادات عليا وتحقيق أحلامهم العلمية، رغم تشتتهم بين الشغل والدراسة، ولئن كان القليل منهم ممن اشتغل في ميدانه بعد التخرّج، فهناك من الطلبة من اتجهوا إلى ميادين التجارة ومهن حرة، وفيهم من حقق نجاحا كبيرا، ومنهم من انقطع عن الدراسة، وانخرط في الحياة المهنية، وفضل الانسحاب تحت ضغط المشاكل اليومية وصعوبة الواقع، وعدم القدرة على الجمع بين الاحتياج والدراسة، وقليلون هم الذين عادوا إلى بلدانهم بعد التخرج، ومما لا شك فيه ولأننا في بلد لغته الفرنسية فإن هذه اللغة غالبا ما تقتحم لسان الطالب العربي، وتطغى شيئا فشيئا على اللغة الأم، مما يجعله مطالبا أكثر بتعهد لغته، وعدم إحالتها على رفّ الذاكرة.
العوائق والتحديات
إن أول ما يصطدم به الطالب العربي هنا هو العائق المادّي، خصوصا إذا ما عرفنا أن مجموعة كبيرة من الطلبة لا تتمتع بمنحة دراسية، إن لم نقل الأغلبية المطلقة. فتبرز مشاكل السكن والمتطلبات اليومية من أكل وتنقل وشراء الكتب، مما يجعل الطالب مطالبا بالتكيف مع وضعه الحالي، ومواجهة هذه التحديات، فتجد الطالب ذاك الطفل الذي كان محاطا برعاية الأهل والمجتمع، نجده هنا وجها لوجه مع مصيره، لهذا فإنه سينتقل إلى وضعية جديدة وواقع جديد ومجتمع جديد، يزرع فيه إرادة إضافية وقوة أخرى، تجعل منه إنسانا قادرا على مواجهة الصراع اليومي، وتخلق لديه طاقات أخرى تمكنه من البحث عن شغل، يتوافق مع إمكانات دراسته، ورغم أن هذا التشتت بين الشغل والدراسة إلا أن الاختيارات أمامه محدودة، معتمدا على مقولة من طلب العلا سهر الليالي، هذا دون أن ننسى أن الطالب العربي قد يواجه في البداية مشكل اللغة الفرنسية، التي وإن كان المغاربة يحسنونها، إلا أن إتقانها يتطلب مجهودا إضافيا.
وتبقى في اعتقادنا إيجاد هياكل طلابية قادرة على امتصاص
بعض هموم الطلبة القادمين من الضفة الأخرى، له أولوية التفكير مستقبليا، هذا ومن أهم أسباب الإقبال على الدراسة في الخارج وتحديدا فرنسا، هي الإمكانات البيداغوجية المتاحة هنا، ” مكتبات- انترنيت – مراجع – كمبيوتر- مراكز بحث… وكل هذه العناصر لها جاذبية لدى الطلبة، بالإضافة إلى قرب فرنسا من شمال إفريقيا، وعامل اللغة الذي يسهل التعامل، إلى جانب أن فرنسا هي بلد الأدب والفلسفة والفكر وبلد المبدعين والمثقفين، أما الآفاق المتاحة للطلبة الأجانب بعد التخرج، فهي تبقى محدودة جدا، مما جعل الطلبة بعد تخرجهم وإن فضلوا البقاء، فإنهم يشتغلون في غير ميدانهم، بل وأحيانا كثيرة في مهن جانبية لا علاقة لها باختصاصاتهم، ومع ذلك فمعظم الطلبة يفضلون البقاء، على العودة إلى أوطانهم بعد التخرج، لأسباب مرتبطة أساسا بغياب فضاء الحريات في بلدانهم، إضافة إلى أن في أوطاننا لا زال الرجل المناسب يشتغل في المكان الغير مناسب…
بعض هموم الطلبة القادمين من الضفة الأخرى، له أولوية التفكير مستقبليا، هذا ومن أهم أسباب الإقبال على الدراسة في الخارج وتحديدا فرنسا، هي الإمكانات البيداغوجية المتاحة هنا، ” مكتبات- انترنيت – مراجع – كمبيوتر- مراكز بحث… وكل هذه العناصر لها جاذبية لدى الطلبة، بالإضافة إلى قرب فرنسا من شمال إفريقيا، وعامل اللغة الذي يسهل التعامل، إلى جانب أن فرنسا هي بلد الأدب والفلسفة والفكر وبلد المبدعين والمثقفين، أما الآفاق المتاحة للطلبة الأجانب بعد التخرج، فهي تبقى محدودة جدا، مما جعل الطلبة بعد تخرجهم وإن فضلوا البقاء، فإنهم يشتغلون في غير ميدانهم، بل وأحيانا كثيرة في مهن جانبية لا علاقة لها باختصاصاتهم، ومع ذلك فمعظم الطلبة يفضلون البقاء، على العودة إلى أوطانهم بعد التخرج، لأسباب مرتبطة أساسا بغياب فضاء الحريات في بلدانهم، إضافة إلى أن في أوطاننا لا زال الرجل المناسب يشتغل في المكان الغير مناسب…
قليل من الزاد وكثير من الأحلام
من الطبيعي حسب اعتقادنا أن يتعرض الطالب إلى المشاكل، خصوصا وهو الإنسان الذي تحول فجأة من أرض غير أرضه، ومن تربة غير تربته، وبين أناس غير أناسه، ومن نظام حياة غير نظام حياته، ومن واقع غير واقعه، فقط إذا نظرنا من هذه الزاوية فقطعا سنكتشف دوامة المشاكل، التي قد تعترض هذا الطالب القادم وفي حقائبه قليل من الزاد وكثيرا من الأحلام، وإذا نحن سألنا ما هي مشاكل الطالب العربي هنا، فكأن هذا الأخير لم يعرف المشاكل إلا هنا في الغربة، متناسين أطنان المشاكل التي يعاني منها الطالب في بلده الأم، في ظل انسداد الآفاق والضغط النفسي والواقع الاجتماعي والسياسي، وإلى ما هناك من الأمور المعروفة بالضرورة في مجتمعاتنا، وفي بلداننا العربية المتشابهة من حيث ضخامة الهموم، إذ يتعرّض الطالب هنا إلى العديد من المشاكل المتصلة بواقع البلد يكون السكن هو التحدي الكبير، ذلك لأن الإقامة بالحي الجامعي غير متوفرة، وتطلب عدة شروط أهمها السن، الذي لا يجب أن يتجاوز 27 سنة، وتكاد تكون تعجيزية عند الخواص، وما يلاحظ أن الطلبة هنا ينقسمون إلى عدة أنواع، فمنهم من يأتي رغبة في الحصول على ديبلومات عليا وتحقيق ذاك الطموح المعنوي، الذي لم ينجزه في بلده، ومنهم من جاء ليطور إمكاناته المعرفية والعلمية، وشريحة أخرى تسعى للاستقرار والانخراط في المجتمع، وشريحة أخرى تغير اتجاه حياتها، وتبتعد كليا عن الدراسة، لتدخل سوق الشغل والبحث عن إمكانية الاستقرار، وتأسيس وضع عائلي مريح، دون أن ننسى أن الطالب ليس إنسانا معزولا عن مجتمعه الأصلي، لهذا فإنه إلى جانب مواجهته للعديد من المشاكل التي تعترضه في هذا البلد، فهو أيضا يجلب معه هموم الوطن والعائلة، هذا ولا يمكننا أن نهمل هاجس الغربة والحنين والاشتياق الذي يواجهه الطالب خلال تواجده هنا، وما يمكن أن يلفت الانتباه هو وجود عدد من الطلبة الذين بقوا متأرجحين بين العودة والبقاء، فلا هم انهوا دراستهم وعادوا، ولا هم استقروا هنا وعاشوا وبقوا معلقين، فمنهم تقريبا من اقترب إلى سن الشيخوخة ولا زال طالبا على بطاقة الإقامة، ورغم الصعوبات والعوائق إلا أن هناك من نجحوا في أن يكونوا مفيدين للجالية في عدة مجالات، منها الاجتماعي أو الحقوقي أو الجمعياتي.
الممكن المتاح
ما يمكن قوله بعيدا عن الأحكام الجاهزة، أن حياة الطالب هنا ليست مفروشة ورود، كما يعتقد الأهل والناس هناك في أوطاننا، بل هي خلاصة معاناة مستمرة، ابتداء من السكن، مرورا بالاستقرار القانوني، الذي يتطلب الكثير من الجهد، وتوفير العديد من الشروط القانونية المطلوبة… ورغم الصعوبات المرتبطة بالجانب اليومي المعيشي، التي تصادم الطالب أو الطالبة هنا، فإنه في المقابل تنفتح أمامه العديد من المجالات والفضاءات، التي تخوّل له إمكانية المعرفة والاطلاع على مجتمع آخر، والانفتاح على ثقافة أخرى، تمكنه من التأثر والتأثير، هذا ولا يفوتنا أن نعرّج أن حياة الطالب هنا موزعة بين الشغل والدراسة، وفي بعض الأحيان على الاهتمام بأنشطة أخرى من شأنها أن تنضّجه اجتماعيا، حيث أن الفضاءات هنا متوفرة، سواء سياسية أو اجتماعية أو جمعياتية أو حقوقية أو إعلامية، وبخصوص الأفاق المتاحة هنا بعد التخرج، فهذا الأمر يكاد يكون واضحا، حيث أن سوق الشغل الفرنسية تكاد تكون منكمشة، وتشترط جنسية البلد، إلى جانب عملية الانتقاء جد صارمة، ولا ينفي هذا، من وجود بعض الطلبة الذين تمكنوا من الحصول على وظائف مهمة بعد التخرج، ورغم قسوة الحياة هنا، فما يلاحظ هو عدم عودة أغلب الطلبة إلى بلدانهم بعد التخرّج، ذلك لأنهم ألفوا الحياة هنا، وتعوّدوا على نمط معيشي معين، كما أن أوضاع بلدانهم لا تشجّع على العودة، بالإضافة أن السنين التي يقضيها الطالب هنا، لا شك تجعل المسافة بينه وبين بلده تكبر، إلى جانب أنه يكتسب عادات ونسق حياة يجعله غريبا بعض الشيء عن أهله ومجتمعه.
تثوير الإرادة
رغم صعوبة هذا الواقع الكالح ومرارة الغربة، وكل المشاكل المطروحة أمام الطالب، فإن هذا البلد حسب اعتقادنا، يبعث الإرادة لدى الطالب المهاجر، ويستفزه في نومه وطموحه ذلك لأن ” من نام لن تنتظره
الحياة ” (أبو القاسم الشابي)، ليصبح الطالب غير ذاك الطالب، الذي كان في بلده ينتظر مساعدة أهله، بل يصنع منه الطالب المسؤول، عن تدبير سكنه عن البحث عن شغل، عن التنقيب عن رزقه، ويصبح ذاك الإنسان الذي يخترق المستحيل، باختصار يصبح ذاك الإنسان القادر على مواجهة التحديات وتحمل الصعاب.
الحياة ” (أبو القاسم الشابي)، ليصبح الطالب غير ذاك الطالب، الذي كان في بلده ينتظر مساعدة أهله، بل يصنع منه الطالب المسؤول، عن تدبير سكنه عن البحث عن شغل، عن التنقيب عن رزقه، ويصبح ذاك الإنسان الذي يخترق المستحيل، باختصار يصبح ذاك الإنسان القادر على مواجهة التحديات وتحمل الصعاب.
* صحفي وكاتب تونسي مقيم بباريس