جاء الوفاق اللبناني سريعا بمباركة عربية رسمية، وفرحة عارمة على مستوى الجماهير العربية كافة، وخصوصا جماهير فلسطين وتحديدا نحن في غزة اللذين ما زلنا في طقوس الجنازة نتقبل التعازي بوفاة الضمير، وتعنتنا الحزبي الضيق، وهنا جوهر الاختلاف الكبير بيننا وبين الأشقاء في لبنان بالرغم من تشابهنا في الأحزان والملمات، التى حلت بنا سابقا وما زالت من نفس العدو المشترك، إلا أنها بالعموميات ولا تصيب الجوهر الكامن في النفوس وصدق النوايا.
فهناك كما أشرنا في مقالات سابقة ، تكمن القوة في عقول نيرة رسمت طريقها بوضوح وخطت مصالحها ضمن المصلحة العامة وهى مصالح لبنان العليا وشعبه، فالقوى السياسية كلها ارتأت العمل تحت سيادة القانون والدستور واحترام نظمه الديمقراطية والسياسية والطائفية ولم تستأثر بالحكم وتنقض عليه، ولم تنسف السلم الأهلي ولم تنشى دولتها أو تهيمن على أي من مراكز السيادة بما فيها مؤسسة الجيش الوطني التى جعلته حكما وشاهدا ووسطا، وإنما قامت بإجهاض أفكار خاطئة كانت تحول دون انطلاق العملية الديمقراطية لوقت سادت فيه أجواء التحزب والتهديد بمواجهات مفتوحة تدمر لبنان من جديد على يد أهله ؟ مما حدي قوى المعارضة ذات البعد الوطني والثوري الجهادي الثاقب ، لحسم كل هذا وإنهاء كل تلك المظاهر للدفع باتجاه الحل التوافقي ضمن الخارطة الحزبية الطائفية اللبنانية وهذا ما حدث فعلا، فنقول مبروك من قلوبنا الصادقة آملين أن نقتدي بكم هنا في فلسطين المحتلة وتحديدا في غزة التى انفصلت إداريا وسياسيا عن شقها الشمالي منذ عام تقريبا بعد الانقلاب العسكري الخاسر ، والذي تُوج مؤخرا بخلو البيوت من غاز الطبخ وهو من أساسيات الحياة وتلوث الهواء من نفخ ما تيسر من عربات متهالكة تسير على زيت القلي الرديء ( السيرج ) كبديل اكتشفه سائقي غزة عملا بالمقولة الشهيرة ” الحاجة أم الاختراع ” دون حساب أخطاره المتسرطنة المنبعثة في الهواء ، وأخيرا انقطاع وشلل لشبكة الانترنت وخصوصا في عدم القدرة على تصفح المواقع بسهولة وسرعة، وما له من أضرار على النخب الفكرية التى تجد في الكلمة تنفيس لها، ومن الإعلام والتنوير العلمي والأكاديمي على الشبكة العنكبوتية مصالح لها نتيجة لعبث في الشبكة بقصد حجب مواقع معينة قد يتسبب في إتلاف الشبكة نهائيا.
وآخر ما نطمح له في غزة الآن هدنة مع الاحتلال الصهيوني ما تزال بنودها سرية ! ستعلن في الأسبوع القادم بشكل رسمي، بشروط نتمنى ألا تكون مجحفة في حق شعبنا في شقيه الشمالي والجنوبي وألا تزيد من هوة الانقسام الجغرافي والسياسي والاجتماعي ؟ بالتمترس الخاطئ في داخل جغرافية غزة التى أصبحت نموذجا يُرعب جميع أنظمة الحكم وشعوبها على السواء في العالم العربي والإسلامي.
بالعودة إلى الاتفاق والتوافق للجهات الفاعلة على الساحة اللبنانية في الدوحة بغطاء عربي وموافقات دولية وإقليمية ، فقد يتساءل سائل لماذا لم يتوصل في فلسطين إلى مثل هذا الوفاق ؟ نقول لهم ليس دقيقا هكذا سؤال ! فقد كانت أراضى العربية السعودية تشهد على اتفاق مكة المكرمة على مسمع ومشهد من الكعبة المشرفة، وما حل به لاحقا من إفشاله والتنصل منه بفعل انقلاب لا طعم ولا لون ولا رائحة له ، سوى رائحة بارود وقتل ، ونفث زيتا محروقا لوث هواء القطاع كله، وبعث فقرا وتأخرا وتراجعا وأحقادا وهيمنة متفردة على مجمل القوى السياسية في إقصاء لها فاق حد المعقول ، فحتى مسيرات ذكرى نكبة فلسطين تم قمعها وتفريقها بالقوة وإنكارها على الشعب وقواه الوطنية في التعبير عن حق العودة المقدس .
ولكن مما لا شك فيه وللحقيقة نقول بأن هنا يبرطع ويرتع لاعب خطير وأساسي هو دولة الاحتلال الصهيوني ، التى استفادت من هكذا شرذمة فهي تحشد لها بكل الوسائل والطرق الممكنة للحيلولة دون العودة للوفاق الوطني الفلسطيني وبالتالي إلى وحدة الأرض والشعب، وها هي تلجأ لعقد صفقات منفردة للتهدئة أو الهدنة مع جماعات مستحدثة !! وحركات مهيمنة لطالما رفضت التهدئة في الماضي وأفشلت كثير من التقدم على الصعيد السياسي في حينه، فغيرت من الظروف السائدة حتى تجمدت المفاوضات وتقهقرت فهل ننكر ذلك ؟ وهذه الهدنة المرجوة في غزة إن كانت في سبيل عودة الميكروفونات لتخدش في الوعي الفلسطيني للجماهير دون حياء أو خجل للاستهلاك المحلى دون إحراز تقدم على صعيد الوفاق الوطني وإعادة اللحمة للجبهة الداخلية الفلسطينية فلا نريدها، وان كانت لا تستطيع أن تزيل حدة المهانة الإنسانية التى تعم كل الناس هنا جراء طوابير العار على غاز الطبخ أو محطات الوقود على سبيل المثال لا الحصر فلا نريدها، وان لم تغير شيئا من هذا فهي أهداف فاشلة بطبيعة الحال والواقع هنا الذي لا يخفى على أحد، فنحن نعلم الحقيقة الكاملة بأنه ما لم يتم تعديل الاتفاقيات الاقتصادية المجحفة بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية الشرعية (اتفاقية باريس) وتعديل اتفاقيات المعابر الموقعة وخاصة معبر رفح فمصر العروبة لن تستطيع التعدي على هذا الحق بأي شك
ل من الأشكال بطعن الشرعية الفلسطينية المتمثلة بالأخ الرئيس أبو مازن التى هي طرف أساسي فيها ، ولا التعدي على الاتفاقيات الدولية بهذا الأمر ، فانه لا يمكن أن نتوخى تحقيق أي أهداف لها قيمة سياسية.
وبالتالي لنا الحق في التساؤل :
ما الذي تبتغيه حكومة الأمر الواقع في غزة من الهدنة أو التهدئة المزمعة توقيعها الأسبوع القادم ؟؟ إن لم تحقق شيئا من بعض الأهداف الأساسية التى تنشدها جماهيرنا الفلسطينية وتحديدا في غزة بعد كل هذه التضحيات الجسام وكل هذه المعاناة جراء حصار ظالم نتيجة لتداعيات الانقلاب العسكري وان لم نجد الإجابة التى يرتضها شعب غزة بقواه الوطنية والمستقلة ، فلا يسعني إلا القول عظم الله أجرنا في موت إدراكنا ووعينا وتفكيرنا الذي يرتقى إلى مستوى الأحداث والفواجع الحالية والقادمة !! ، ومبروك لأشقائنا في لبنان فهم الأكثر وعيا وحكمة واقتدار ، لوجود قيادات من الرجال صادقي الوعد ، غلب رأيهم وحكمتهم تلك الآراء النكراء والضيقة والمتهورة والمقامرة بالأرض والشعب.
إلى اللقاء.