د. نضير الخزرجي
يستسهل البعض التعامل مع الجنين الى الدرجة الذي يدعوه أو يدعوها الى إسقاطه بطرق بدائية او طبية، وعدم التعاطي مع المسألة من جانبها الإنساني، بل وتجاهل حق الجنين في الحياة بخاصة اذا ولجت فيه الروح، وأنه كأي إنسان يمشي على قدمين له حق التمتع بالحياة وثمارها في الآخرة، وليس قطعة لحم قابعة في نقطة مظلمة تحيطها أغشية ثلاثة.
ومثل هذا التساهل هو الذي يجعلنا نرى جنينا لم يبلغ سن الولادة مرميا في سلة المهملات، او ملفوفا في خرقة بالية، او مولودا خنقته أمه او مولدته ورمته على جادة الطريق، وفي أحسن الأحوال تركته يعالج الحياة لوحده، فان سبقته يد الرحمة حفظ حياته، وإلا مات لبرد او حر او جوع، وإذا فلت الجنين من عسر الحياة وشرورها، فلا تفلت الأم من الجزاء والعقوبة وإن أمنت على نفسها ذل الفضيحة، لأن المجنى عليه إنسان وإن كان جنينا.
وإذا كانت مثل هذه الحوادث تحصل لدى أسر تحاول ان تداري فضيحة قادمة، أو أم مريضة عجز الطب عن رفع دائها إلا بإسقاط جنينها، أو تشوهات جنينية غير قابلة للعلاج موضعيا ينصح الطب بإسقاط الجنين، وغير ذلك من عمليات الإسقاط، وربما تعد الكثير منها مقبولة في نظر الطب والشرع، وحتى العرف في بعض البلدان، فما بال أولئك الذين يسقطون الجنين لعدم رغبة الأب في الإنجاب خشية إملاق، أو رغبة في الاستمتاع بملذات الحياة وزهوها كونه حديث عهد في الزواج حتى وإن مضى به شهر العسل الى سنوات طوال، أو أن مشاغل العمل تمنع الأب أو الأم من الإنجاب حتى إذا ما حل الضيف في بطن أمه سارع أو سارعا الى إسقاطه طمعا في دينار زائد لا يغني ولا يسمن من جوع في قبال ضحكة طفل او بكاء، فحتى البكاء له موسيقاه في أذن الأم وإن كان في مسمع الأب طنينا ورنينا بخاصة في ليلة ليلاء سادت فيها خفافيش السهر وعزّت فيها طيور الكرى.
شريعة الجنين
يا ترى هل ينتهي أمر الجنين بإسقاطه او رميه بعيدا او دفنه في حفرة في أحسن الأحوال؟
بالطبع فان الأمر من وجهة نظر إٍسلامية لا يتوقف عند هذا الحد، فالجنين وإن كان لحمة حمراء كما تقول أمهاتنا، لكن إسقاطه لا يعني نهاية المطاف لأن الإسقاط موت والموت تحول لا فناء، وانتقالة لا انعدام، ولذلك فان للجنين حقوقا كما للإنسان السوي من حقوق، بل إن حقوقه تبدأ من ساعة تفكير الأب بالزواج، فإن أحسن اختيار الزوجة أحسن لجنينه الرحم الدافئ الذي ينشأ فيه ويطل منه على حياة اختلط يسرها بعسرها وعسلها ببصلها.
هذه الحقوق وما يترتب عليها يطالعها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي، في كتاب “شريعة الجنين”، في إطار 146 مسألة شرعية، مبينا رأي الشرع فيها بما توصل اليه اجتهاده، مع تقديم وتعليق آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، وصدر حديثا (2008م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت، في 112 صفحة من القطع الصغير، مع باقة من الآيات الكريمة والروايات الشريفة الخاصة بالجنين.
مسائل منسية
ليس من شك أن تشعبات الحياة وتطورها أوجدت معها مسائل جديدة، لم يتطرق اليها الفقهاء، مع إن الإٍسلام أباح للفقهاء إعمال العقل وبذل الجهد لمتابعتها وإبداء الموقف الشرعي منها، على إن إبراز الموقف الشرعي في المسائل المستجدة ليست منحصرة في الدين الإٍسلامي فحسب، فعلى سبيل المثال صوّت مجلس العموم البريطاني في 19 أيار مايو العام الجاري 2008 على قانون يسمح بخلق أجنة إنسانية – حيوانية لعلاج أمراض مستعصية، وقد جرى قبل وبعد التصويت لغط كبير في الأوساط الدينية والإجتماعية إذ اعتبرت المسألة غير أخلاقية برمتها، لكن حزب العمال الحاكم وهو حزب ليبرالي يدأب بعض نوابه حضور قداس يوم الأحد، لم يفرض حزبيا على نوابه التصويت على القانون بنعم أو لا، وإنما أباح لكل نائب ان يصوت بما يمليه عليه ضميره ومعتقده، وقد جاء التصويت بالقبول 336 صوتا مقابل 176 معارضا.
والإٍسلام وهو رحمة للعالمين والرسالة الخاتمة، ولا تتقاطع نصوصه الثابتة مع حقائق العلم، ويتوخى المصلحة العامة باستجلاب المنفعة ودرء المفسدة، معني بإبداء الرأي وعدم ترك الناس هملا، ولذلك فان الشيخ الغديري في مقدمة “شريعة الجنين” يرى: “لزاما على العلماء والفقهاء الذين هم الأمناء على دين الله وخلفاء الرسول (ص) بالمعنى العام، أن يهتموا بهذا الأمر اهتماما بالغاً”، ويعبر في الوقت نفسه عن أسفه لغياب الرأي الفقهي عن مسائل مثل مسائل الجنين، حيث: “لم أجد من الأكابر والأعاظم من تطرّق لهذه المسألة بشكل واسع وعميق ومب
سط سوى الإشارة الى بعض السنن والمستحبّات والمكروهات”، مثنيا على صاحب الكتاب بما جاء به في شريعة الجنين، وإن كان مختصراً لكنه بمثابة تأسيس لفقه الجنين: “على الآخرين شرحها والبحث عنها نظراً لأهميتها، حيث لها آثار في المجتمع الإنساني علميا وعملياً”.
سط سوى الإشارة الى بعض السنن والمستحبّات والمكروهات”، مثنيا على صاحب الكتاب بما جاء به في شريعة الجنين، وإن كان مختصراً لكنه بمثابة تأسيس لفقه الجنين: “على الآخرين شرحها والبحث عنها نظراً لأهميتها، حيث لها آثار في المجتمع الإنساني علميا وعملياً”.
ذلكم الجنين
تتحسس المرأة الحامل كامل مراحل تطور الجنين، وهي وإن كانت تتطلع الى اليوم الموعود لكنها تحمله وهنا على وهن لما في الحمل من آلام وتقلبات نفسية وجسدية تؤثر عليها سلبا، ولكنها سنة الحياة، ووصية الرب لمربوبه: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمّه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن آشكر لي ولوالديك إليّّ المصير) سورة لقمان: 14، وإذا كان الأب يتحسس حركة الجنين خارجيا وهو يضرب بقدميه رحم والدته، فإن علماء الطب هم أقدر على فهم التفاصيل من الأم والأب معاً، وعندما يدعو الفقيه الكرباسي الى الجمع بين العلم والفقه، ذلك لأن العلم يقدم إجابات حسية آمن بها الفقيه تعبديا من خلال النصوص الثابتة، فمراحل تطور الجنين من نطفة حتى الإنشاء وما يترتب عليها من أحكام فقهية من حقوق وواجبات ذات العلاقة بين الجنين ووالديه، إنما أخذ بها الفقيه استنادا الى نصوص قرآنية وحديثية، ولكن الطبيب او الباحث يقف على هذا المراحل عيانا، فتنكشف له حقائق علمية بتفاصيلها، وربما كانت هذه التفاصيل مدخلا الى إيمانه بما جاءت بها النصوص قبل أربعة عشر قرنا، بل والإنشداد أكثر إلى خالق الوجود، فإيمان العالم غير إيمان العابد، فهو إيمان عن دراية لا رواية.
وقصة تطور الجنين الذي ذكرها القرآن الكريم في مواضع عدة كانت محل تأمل لدى أستاذ علم التشريح والأجنّة في جامعة تورنتو بكندا كيث مور (Keith L. Moore)، صاحب الكتاب الشهير (The Developing Human)، حيث اطلع على نصوص من القرآن والسنّة، فتسربت الدهشة الى أوصاله، بخاصة في قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسنُ الخالقين) المؤمنون: 12-14، ولأن العالم الحقيقي إبن الدليل أمين على ما توصل اليه وإن خالف معتقداته الشخصية، فانه قال قولته المشهورة: “إن التعبيرات القرآنية عن مراحل تكون الجنين في الإنسان لتبلغ من الدقة والشمول ما لم يبلغه العلم الحديث، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا كلام الله، وأن محمداً رسول الله”.
فالمراحل القرآنية السبع: النطفة، النطفة الأمشاج، العلقة، المضغة، العظم، اللحم، والخلق الآخر، هي المراحل نفسها التي توصل اليها علم التشريح، وهي ما أكدها كيث مور في كتاباته، وجعلته يؤمن بالإٍسلام بوصفه الدين المكمل للأديان السماوية، وأعلن مور في مؤتمر الإعجاز العلمي الأول للقرآن الكريم والسنّة المطهّرة الذي عقد في القاهرة عام 1986م، في محاضرته وبصراحة العالم الواثق: “إنني أشهد بإعجاز الله في خلق كل طور من أطوار القرآن الكريم، ولست أعتقد أن محمدا (ص) أو أي شخص آخر يستطيع معرفة ما يحدث في تطور الجنين لأن هذه التطورات لم تكتشف إلا في الجزء الأخير من القرن العشرين، وأريد أن أؤكد على أن كل شيء قرأته في القرآن الكريم عن نشأة الجنين وتطوره في داخل الرحم ينطبق على كل ما أعرفه كعالم من علماء الأجنّة البارزين”.
وما أثبته القرآن الكريم من قبل وأكده العلم لاحقا، ينفي نظرية التطور الداروينية، ولذلك يعلق الشيخ الغديري على مسألة خلق الإنسان بقوله: “ولهذه الآيات دلالة واضحة وصريحة على كيفية خلق الله للإنسان، مما يدحض النظريات الوهمية التي تعتمد على التدرج التكاملي للأحياء ليكون أصل الإنسان حيواناً، أي تطوّر تدريجيا حتى أصبح إنساناً، ولا ندري هل توقفت عجلة التطور أو تحولت؟ وهذه النظرية تبنّاها دارون ولكنه لم يؤكدها ثم صدرت منه إشارات في آخر حياته تفيد بأنها مجرد نظرية لابد من التحقق منها، وجاء العلم الحديث أخيراً لينسف هذه النظرية، مما يدل على ضحالتها، وكل هذه النظريات يدحضها كلام الباري جل شأنه”.
متى يُسقط الجنين؟
ولذلك فان هذا الجنين بهذه الخلقة العظيمة يستحق الحياة، ويستحق النشأة الصالحة، وعلى الإنسان نفسه أن يتدبر في خلقته من أين أتى وكيف أصبح، ولا يستضعف نفسه، كما قال الامام علي (ع):
أتزعم أنك جرم صغير … وفيك انطوى العالم الأكبر
وتأسيسا على ذلك، وكما يؤكد الدكتور الكرباسي: “فمن أراد أن يبحث عن الخليقة كلها وعن قوانينها بكل أبعادها الفيزيائية والكيميائية وما شاكلها فعليه أن يقوم بدراسة نفسه، وعندها يتمكن أن يعرف قدرة ربه، ومن هنا جاء في الحديث: من عرف نفسه عرف ربه، وهيهات أن يعرف الانسان نفسه …
ويبقى الانسان ذلك المجهول”.
ويبقى الانسان ذلك المجهول”.
ومن الثابت أن الإنسان السوي هو الذي يدرك الحياة ومساربها والنحل ومشاربها، فيأخذ بما ينفعه في دنياه وآخرته، وحسب المحقق الكرباسي: “أن ناموس الحياة البشرية يتكون من علاقات ست استخرجناها من الآيات والروايات: علاقة الإنسان بخالقه، علاقة الإنسان بنفسه، علاقة الإنسان بنظيره، علاقة الإنسان بمجتمعه، علاقة الإنسان بالدولة، علاقة الإنسان بالبيئة”.
ومن مظاهر إدراك الإنسان ذكرا او أنثى لهذه العلاقات ولمعنى الحياة إدراكه لحقوق الجنين، وعليه يستنبط الفقيه الكرباسي من النصوص مجموعة من حقوق الجنين، ولعل أولها عدم إيذائه وآخرها عدم إسقاطه، بل لا يجوز المقاربة الجنسية اذا كان فيها ضرر على سلامة الجنين، كما يجوز استئجار الرحم حفظا للجنين اذا كان رحم الأم الأصل غير قادر على حمله لسبب ما، وإذا ما اسقط الجنين فيترتب على المسقط مجموعة من العقوبات من كفارة ودية فضلا عن إثم الإسقاط إن كان عن غير رخصة شرعية أو طبية. كما أن للجنين الساقط أو المسقط من أحكام ما للإنسان السوي الميت، بخاصة اذا ولجت فيه الروح واستوت خلقته، فله الغسل واللحد والكفن.
ولكن هل هناك استثناءات لإسقاط الجنين؟
نعم هناك حالات استثنائية يحصرها آية الله الكرباسي في ثلاث:
أولا: اذا توقف حياة الأم على إسقاطه شرط ثبوت ذلك عبر الطرق العلمية الثابتة.
ثانيا: الخوف على سمعة العائلة، أو اذا كانت المرأة نفسها في حرج شديد فيما اذا قامت بما يخالف العفة وكانت نزوة.
ثالثا: إذا كانت في الجنين عاهة تصعب معه استمرارية الحياة، كما لو أصيب بالفلج ولا يُحتمل علاجه، إن ثبت ذلك بما لا يوجب الشك.
ويفهم من النصوص أن حياة الأم أولى، وحتى في المسألة الثانية، فان حياة المرأة أولى، فعلى سبيل المثال إذا أخطأت المرأة في ساعة شيطانية وخافت على حياتها ما تنتجه فضيحة الحمل من قتل لها من قبل ذويها، جاز لها الإسقاط، ولا يرفع عنها الإثم والكفارة. وأما في المسألة الثالثة فان الشيخ الغديري يعلق عليها بالقول: “وفيه أن الفلج ونحوه من الأمراض وإن كان قد تصعب معه الحياة ولكن كونه مجوزاً للإسقاط غير معلوم، ودعوى عدم احتمال العلاج بعد الولادة في غير محلها، هذا مضافا الى تقدم الطب في عملياته واكتشافاته”.
في الواقع أن العلم الحديث أًصبح يرينا من حياة الجنين ما لم نكن نعرفه قبل سنوات، فالجنين في بطن أمه يفرح لفرحها ويحزن لحزنها، يسمعها اذا حدّثت، ويرتاح لترنيماتها، ويشجو على شجوها، ويغفو على نومها، تداعبه بلمساتها الحانية ويداعبها بركلاته الناعمة، يخاتلها بتقلصاته ذات اليمن وذات الشمال، فإذا ما أحسنت الأم إشباع جنيها من حلال مطعمها، وأسمعته من لطيف كلامها أو كلام الله، ومارست معه الرياضة قياما وركوعا وسجودا في أوقات تعبدها، ضمنت في الغالب إبنا سعيدا، فالقول ما قاله الرسول الأكرم محمد (ص): “الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه”، فبيضة سعادة الوليد في سلّة الأم، لها أن تلد شقيا ولها أن تلد سعيداً.
الرأي الآخر للدراسات – لندن