أينما حل المشروع الصهيوني الأمريكي سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً تحت أي مبرر أو شعار حلت الفتنة بكل أنواعها وأطيافها وحلت معها الحروب والفوضى والدمار والخراب والقتل وسالت الدماء بين أهل البيت الواحد.فالعراق وفلسطين وتداعياتهما حالة ماثلة للأعين لهذه الفتنة ولا لبس فيها، ومن المستغرب أن من يروج للمخطط الأمريكي الصهيوني وللفتنة في لبنان هم أنفسهم الذين يتباكون عليه وعلى أطلاله والذين كانوا سبب مأساتهما والمروجين للفتنة الشيطانية الدموية التي ترتع بين أبنائهما وما اتهامهم هذا الطرف أو ذاك بالعبث في أمنهما واستقرارهما (ويتناسون بأنهما محتلان من قبل صديقتهما وربيبتها) إلا محاولة منهم للتغطية على فعلتهم النكراء بحق هذا البلد العربي وشعبه.
يدل كل ما يجري الآن أن دعاة هذه الفتنة ومحرضوها هم من سلموا العراق بعد فلسطين للمشروع الصهيوني الأمريكي ليعيث بهما تدميراًً وخراباً وشرذمةً، وقتلاً وتشريداً لشعبهما، ومحاولة تقسيمهما وتهويد هويتهما وانتمائهما وليكونا امتداد أخر لمخططهم الهادف لتفتيت هذه المنطقة بالكامل بالترويج للفتنة العرقية والمذهبية ثم ليتركوا المنطقة رماداً بعد أن يستنفذوا خيراتها وشعوبها.
وما جرى في لبنان من تموضع سياسي بين المعارضة وقوى السلطة بعد عدة سنوات من التعنت لموالاة المشروع الأمريكي الصهيوني والتماهي في تنفيذ مخططهم المدعوم من بعض الأنظمة العربية هو دليل واضح لماهية هذا الصراع وشراسته بين المشروعين في المنطقة. ومهما كانت الأسباب المباشرة وغير المباشرة لهذا التحرك التي قامت به المعارضة الوطنية اللبنانية فأن هدفه الأول هو إسقاط المشروع الأمريكي في لبنان بعد أن اتضحت كل خططه ووسائله، ووأد الفتنة التي يحملها ومنعها من التمدد والتي بدأ البعض في لبنان وخارجه بالترويج إليها بشراسة وكأنها أمر واقع. الحقيقة الواضحة يدركها الجميع إلا أصحاب هذا المشروع وزبانيته، فالذي حدث على أرض الواقع هو عكس ذلك والكل يعلم بأن الأمر بدأ من تحرش مجموعة مسلحة من زعران أتباع المشروع الأمريكي بالمتظاهرين والمعتصمين والذين انتشروا في أنحاء بيروت الغربية بهدف إرعاب أهلها ومنع المعارضة الوطنية من التعبير عن مطالبها في جعل الحكومة تتراجع عن قراراتها الصادرة بحق المقاومة والشعب اللبناني والذي استدعى بالمعارضة ومنعاً للفتنة وإراقة الدماء أن تضع لهم حداً. فالسلاح الذي استخدم إذاً كان موجه ضد زعران ومرتزقة وعملاء أصحاب مشروع الفتنة الذين لم يتوانوا عن استخدام كل وسائل الضغط من قرارات مجلس الأمن، محاولة زعزعة استقرار بافتعال الاغتيالات والأزمات والأحداث (مخيم نهر البارد) واستقدام المرتزقة والتسلح، وتعطيل الحياة السياسية والاقتصادية في البلد بنقض اتفاق الطائف ومنع المشاركة الوطنية الكاملة بالتمثيل في الحكم ودعمهم للعدوان الإسرائيلي على لبنان وجميع الوسائل الإعلامية المتاحة لديهم للتحريض ضد المقاومة وسلاحها.
فالتموضع السياسي الذي حققته المقاومة والمعارضة الوطنية على الساحة اللبنانية والذي تمثل في نهايته بجلوس جميع “الأفرقاء اللبنانيين” على طاولة الحوار التي هي مطلب المشروع الوطني اللبناني بكل أطيافه على مبدأ التشاركية وليس إقصاء الآخرين هو في الحقيقة ليس انتصار طرف على طرف لبناني أخر بل انتصار لبنان وشعبه على المشروع الأمريكي والفتنة التي يحملها ومن يدعمها. ومهما كانت قوة التضليل والتغرير وتأجيج المشاعر العاطفية والدينية والمذهبية فأن المخططات الصهيونية التي سعت للنيل من دول الممانعة والمقاومة اللبنانية وسلاحها والحملة الإعلامية الشرسة التي شنت عليهما وعلى المعارضة الوطنية اللبنانية ليس فقط بعد اغتيال رفيق الحريري كما يظن البعض بل التي بدأت بعد انتصار التحرير في عام 2000 وأخذت شكلاً منظماً وبوتيرة قوية بعد انتصار المقاومة في تموز 2006 (في الحقيقة يعجز العقل الإنساني عن فهم التركيب الفكري لهؤلاء الذين يدعون حرصهم على سيادة وحرية واستقلال بلدهم، كيف يحولون انتصار شعبهم لهزيمة أو يريدون له الهزيمة )، ومحاولة جر بلدهم لآتون الحرب الأهلية عبر التحريض الطائفي والمذهبي الممنهج باءت بالفشل الذريع نتيجة الفهم والوعي والإدراك والإيمان لدى قادة المعارضة في لبنان في قضية شعبهم وعدالتها وسيادة وحرية بلدهم، وبأن الفتنة مهما كان اسمها وشعارها هي رأس الشيطان وحاملة الويلات والمصائب وبالتالي فأن وأدها ومنعها هو أحد الوسائل الأساسية في مقاومة هذا المشروع وإسقاطه وفي صيانة وحدة لبنان واستقرار وأمنه. وهذا ما أدركه الشعب اللبناني بعدما انكشفت الصورة الحقيقية لأتباع المشروع الأمريكي في لبنان. وفي هذا الإطار ونتيجة لهزيمة المشروع وللفتنة التي يحملها بدأت أبواق هذا المشروع الشيطاني بالترويج إلى أن سلاح المقاومة وجه نحو الداخل بدلاً من العدو الصهيوني وبأنه استخدم لتغليب فئة على فئة. وهنا يبرز تساؤل بسيط وبديهي والعالم
كله يرى عبر وسائل الإعلام المرئية ما حدث، هل حقيقة وجه سلاح المقاومة للداخل أي ضد الشعب اللبناني أم لا، أو أن المعارضة كانت تحارب نفسها وما نراه من تبادل لإطلاق النيران، ثم تسليم لمخازن أسلحة متوسطة وثقيلة من موالاة المشروع الأمريكي هو خدعة تلفزيونية؟. وهل السلاح الذي استخدم في الشمال والبقاع هو سلاح مقاومة أيضاً، وضد أية فئة استخدم ولماذا؟. ألم يكن كل ما حدث خارج بيروت وإن كان يقال ردود فعل على ما حدث فيها (هذا كلام أدعياء السيادة والحرية والاستقلال والعيش المشترك) هو ضمن إطار تأجيج الفتنة وإلا ماذا نسمي تصريحات أتباع المشروع الأمريكي وأذنابهم في الشمال؟. لا بل بعضهم وحتى الآن وخاصة المدعوم من جهة عربية يريد أن يصورها وكأنها وقعت ويصر على ذلك بهدف استغلالها لتحسين موقعه ونفوذ سادته على الخريطة السياسية اللبنانية وليس حرصاً على وحدة واستقرار لبنان وشعبه. فقد شهدنا كذبهم وخداعهم وتلونهم وانجرارهم وضعفهم وإفلاسهم وغدرهم. ولهذا فأن نجاح الحوار وما يليه مرهون بمقدار ما سيحصلون من مكاسب ترضي سادتهم وليس شعبهم وبلدهم بما يصون وحدته واستقراره. في جميع الأحوال لا يؤمن لهم ولا لسادتهم جانب.
في ظل كل ذلك فأن أدنى الحدود المطلوبة لفهم حقيقة ما يجري في هذه المنطقة التي تعصف بها التوترات إذا لم نكن فاعلين على أرض الواقع هو أن نكون منفعلين ومتأثرين من الناحية الفكرية والمعنوية ومنحازين لمصلحة أمتنا وأوطاننا وشعبنا، أما أن نغرد بعيداً عنهم فهذا شيء بعيد عن منطق التفكير الواعي لماهية الانتماء والدفاع عنه. فنحن أمام مشروعين لا لبس فيهما المشروع القومي والوطني المقاوم والممانع والأخر المشروع الأمريكي الصهيوني، الأول الذي يناضل ويقاتل ويصمد للحفاظ على هويتنا وذاتنا ومقوماتنا وسيادتنا وحريتنا، والأخر الذي يسعى لتفتيتنا وإضعافنا والسيطرة علينا وقلتنا وتهجيرنا وجعلنا أتابع بلا هوية وانتماء وشرف، وهنا لا يمكن لأي عقل بشري سليم سوي التفكير إلا أن يكون مع المشروع الأول مهما كانت الصبغة والعنوان، وعكس ذلك مهما كانت المبررات فهو ضد أمه ووطنه وشعبه، أما الوقوف على الحياد كما يريد البعض أن يسموا أنفسهم وكأن ما يحدث لا يعنينهم فهو أحد أهم أهداف المشروع الأمريكي الصهيوني الذي يسعى ومنذ فترة طويلة من الزمن لإيصال العقل العربي لحالة من الشلل الفكري التام بقضايا أمته ووطنه وإلهائه بقضايا أخرى تبعده عنهم وتجره لصراعات ليست صراعاته، ومنها تأجيج المشاعر العاطفية العرقية والقومية والدينية والمذهبية بهدف إحداث الفتن بين أهل البيت الواحد سعياً لإسقاط المشروع المقاوم والوطني والقضاء عليه وبالتالي علينا جميعاً. ومن ينتمي لهذا التيار يصبح بشكل لا إرادي منتمياً للمشروع الأخر ومنفذاً لخططه وأهدافه. ومن هنا علينا جميعاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً وعقائدياً ودينياً محاربة أي نوع من الترويج للفتنة ومن يحرض عليها مهما كانت المبررات التي يدعونها. لأن وأد الفتنة في المنطقة واستقرارها هو منعة وقوة تجاه هذا المخطط وخطوة هامة في إسقاطه. لنكن يداً واحدة بكل أطيافنا وتنوعاتنا وصفاً واحداً وقلباً واحدة ضد هذا المشروع الصهيوني الذي يهدد كياننا.
دمشق، في 17/05/2008.