جميل ذلك الحضور الذهني العالي للذكرى الستينية الأليمة في أوساط شعبنا, ليست النكبة وحدها, فكثير من الأحداث التاريخية التي نحتفل بسرائها وضرائها قد لا تعترف باللون الحزبي, الذي بات يطغى مؤخرا على كل جوانب حياتنا.
لكن ما يعنينا اليوم بالذات وقفة تأمل سريعة, نضبط معها إيقاع العواطف, ونحاول أن نحيّد عنها عبارات التحشيد والتجييش قليلا, علنا نصل إلى كلمة سواء.
إن هذا الاحتفاء الكبير بذكرى النكبة الستين لأمر مبارك, نستحق كفلسطينيين أن تحسدنا شعوب الأرض كلها عليه, نحن فاقدون للأرض, فاقدون للحرية, ليست لدينا دولة, علمنا تغطيه الأعلام الجزئية, حدودنا وهمية, وإن وجدت فهي للآخرين غير مرئية, مشاريع هنا وحصار هناك, رقص هنا وقتل هناك, تناقضات عجيبة غريبة, نعيشها في ستينية نكبتنا, لكننا نستحق أن نحسد, لأننا لم نفقد الإحساس بعد بقضيتنا التي تاهت في دهاليز القرارات الأممية.
وقد يقول قائل أن أقصى ما حققه الفلسطينيون بعد ستين عاما من النكبة هو الانتقال من مرحلة جلد الذات, إلى بكاء الذكريات, وهذا غير صحيح, فنحن لا نجتر نكبتنا, وما كانت الثورات التي ولدت منذ العام 1948 إلى اليوم لتجد مكانا تشتعل فيه لولا حالة الحزن على فقدان الوطن.
كما أن هذه المشاهد الاحتفالية التي تذكر بالنكبة لها قيمتها التي تفوق الصور الرمزية, ولكي نبرهن على ذلك لنترك المفاتيح الكبيرة والصغيرة جانبا, ولنتوقف عن التغزل بأطلال القرى المهدمة, وشمّات الزعوط, وشعارات العودة وما إلى ذلك, ولنقف عند جوهر تلك الرمزيات.
لقد بات يوم الخامس عشر من أيار فرصة مناسبة للتذكير بما لا يُنسى, إن كانت ذاكرة الناس حية, فرجال السياسة يتناسون, وهنا تكمن قيمة الذكرى, فضلا عن أن هذا اليوم من كل عام يحمل رسالة التعريف للأجيال التي تتعاقب, وعليه فإن من أهم فوائد إحياء ذكرى النكبة أنها تمنع الذاكرة الوطنية, فردية, وجماعية, من أن تصدأ.
وأيضا فإن ذكرى النكبة قد أصبحت فرصة سنوية تاريخية لتذكير الجاثمين على صدورنا أن بداية دولتهم لم تكن نهايتنا, فنحن لا نزال نتذكر, ونتطلع لليوم الذي تصل فيه دولتهم للنهاية.
لكن من أهم قيم إحياء ذكرى النكبة أنها تذكر كل واحد فينا بأسباب مأساته, فالاحتلال هو بيت القصيد, صحيح أن الانقسام بحد ذاته نكبة, والمجازر المستمرة ضد أبناء شعبنا أيضا نكبة, وكذلك بناء الجدار وأعمال الاستيطان, واستمرار اعتقال أكثر من 11 ألفا في سجون الاحتلال…. الخ من ممارسات الاحتلال اليومية تعد كلها نكبات, لكن كل ذلك هو من إفرازات النكبة الأصلية التي ما زلنا نتجرع مرارتها مع كل يوم ينقضي دون أن تزول تداعياتها.