خطاب بوش الوداعي في الكنيست الإسرائيلي، لم يكن بالمفاجئ ولا بالمستغرب، لن يمتلكون الرؤية والقدرة على التحليل في العالمين العربي والإسلامي، فبوش عبر بشكل واضح وجلي عن حقيقة السياسة والمواقف الأمريكية،واليمين المسيحي الأمريكي المتطرف،حيال قضايا المنطقة وتحديداً الملفات الفلسطينية واللبنانية والعراقية والإيرانية، وهذه المواقف تم التعبير عنها فيما سمي بالسياسة الأمريكية الجديدة،ما بعد أحداث أيلول2001 ، سياسة ما سمي إعلان الحرب على “الإرهاب”، ومن ليس معنا فهو ضدنا، أي باختصار شديد وبدون حاجة لفلسفة الأمور وتحميلها ما لا تحتمل، إعلان حرب على كل من يعترض أو يقاوم أو لا يتفق مع السياسة الأمريكية في المنطقة (عرباً ومسلمين)، وهذه السياسة وجدت ترجماتها العملية على الأرض من خلال احتلال أفغانستان والعراق، وما رافق ذلك من عمليات إبادة جماعية للبشر وتدمير ممنهج للبنى والهياكل الاقتصادية والمؤسساتية،ناهيك عن السيطرة على مقدراتهما وخيراتهما،وإعادة عجلة الحياة فيهما الى ما قبل العصور الوسطى،تحت يافطة وذرائع إنقاذهما من الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، وتعميم الديمقراطية الأمريكية المزعومة، والتي جعلت الكثير من العراقيين يترحمون على عهد الرئيس الشهيد صدام حسين، وما حدث في العراق وأفغانستان سحب على باقي المنطقة العربية والإسلامية،وضمن ما أسمته أمريكيا بسياسة الفوضى الخلاقة، وهي إدخال كامل المنطقة العربية والإسلامية ، وبعد إخراجها من التاريخ وإدخالها في دائرة إعادة رسم جغرافيتها،من خلال تقسيمها وتجزئتها وتذريرها وإدخالها في متاهات الحرب العرقية والمذهبية والطائفية، وبما يمكن من استمرار السيطرة عليها ،من خلال كيانات اجتماعية هشة وهزيلة ترتبط باتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية مع أمريكيا وإسرائيل، ومن هنا رأينا تجليات هذه السياسة في خلق أنظمة موالية وتأتمر بأمر من واشنطن في أكثر من بلد عربي، ومن شق عصا الطاعة الأمريكية، فقد واجه سلسلة من العقوبات الأمريكية، اتخذت شكل الحصار والتجويع في فلسطين وإطلاق يد إسرائيل في قتل وإبادة الشعب الفلسطيني، وفرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية والتجارية والمالية والدبلوماسية على سوريا، ومحاولة فاشلة لتحطيم رأس المقاومة اللبنانية في لبنان حزب الله من خلال الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على لبنان في تموز 2006 .
وضمن هذه الرؤيا والمعطيات،نرى أن الرجل منسجم مع ذاته ومواقفه،وفي خطابه الوداعي في الكنيست،حيث أعاد التأكيد على مواقفه وسياسة بلاده الثابتة في الدعم اللا محدود لإسرائيل، والدفاع عن وجودها، وتوفير المظلة والحماية السياسية لمواقفها وممارساتها القمعية والاذلالية بحق الشعب الفلسطيني،وتصويرها على أنها الضحية التي، يجب دعمها بكل الطرق والوسائل والإمكانيات،في وجه غابة من “الوحوش والإرهابيين” في المنطقة،فهي واحة الحرية والديمقراطية والدولة المسالمة….الخ من السيمفونية المشروخة التي نعرفها جيداً،وفي المقابل فإن التنكر لحقوق شعبنا الفلسطيني ووصف مقاومته “بالإرهاب” وكذلك المقاومة اللبنانية والعراقية،والمخاطر التي تشكلها سوريا على المنطقة بدعمها واحتضانها لقوى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق وتحالفها مع إيران،ورفضها ومقاومتها للسياسات الأمريكية في المنطقة، وكذلك ما يشكله امتلاك إيران للأسلحة النووية من مخاطر على المنطقة، وتحولها الى قوة إقليمية كبرى تشكل مخاطر جدية على الوجود والمصالح الأمريكية في المنطقة، فهذا بحد ذاته ليس بالجديد والمستغرب.
أما ما هو مستغرب ويدعو للسخرية،هو مواقف العرب والفلسطينيين الذين يبنون استراتيجياتهم ومواقفهم على وعود خبرها شعبنا أكثر من ستين عام، لم يترجم منها على أرض الواقع شيء، وبوش والذي هو من غلاة المسيحيين المتطرقين الجدد، والذي صفق له أعضاء الكنيست الإسرائيلي 19 مرة ووقفوا له أربع مرات تقديراً واحتراماً لمواقفه المغرقة في التطرف والعنصرية والدعم اللا محدود لإسرائيل، والتي دفعت وزير الخارجية الإسرائيلي السابق والنائب عن حزب”الليكود” سلفان شلوم للقول”بأن بوش صهيوني أكثر من عدد من وزراء الحكومة الإسرائيلية، وكذلك زعيم حزب “المفدال” الاسرائيلي،”زفولون أورليف”، فقد قال عن خطاب العشق البوشي لإسرائيل”إن بوش يتحدث مثل أعضاء المفدال وان حب بوش اللا متناهي لإسرائيل أثار مشاعري”.
إن هذا الرجل المغرق في العنصرية والتطرف والمشبع بالتوارتية والحقد على كل ما هو عرب ومسلم، وعندما يقول بنبرة تحدي “ستحتفل إسرائيل بالذكرى ال120 وهي أقوى وأفضل وأن” المتسادة لن تسقط ثانية”، ويصور إسرائيل على أنها الضحية “للإرهاب” الفلسطيني، ولم يتطرق للشعب الفلسطيني ونكبته والجرائم اليومية التي ترتكبها إسرائيل بحقه بشكل يومي، كل هذا يجعل كل صاحب عاقل وبصيرة، يدرك أن وعده المزعوم عن إقامة الدولة الفلسطينية الى جانب دولة إسرائيل،ليس أكثر من وهم وسراب،لا يؤمن به إلا من هم من دعاة نظرية التفاوض من أجل التفاوض عرب وفلسطينيين، والذين يريدون أن يقنعوا أنفسهم بأن هذا النهج سيوصل الى تحقيق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال، رغم أن كل الدلائل والمؤشرات والمعطيات والممارسات ،تقول ع
كس ذلك وكأنهم يردونها”عنزة ولو طارت”، فالذين يفاوضونهم يقولون لهم بالفم المليان أنه لا للدولة الفلسطينية، ولا مكان لهذه الدولة ،إلا إذا وافقتم على أن فلسطين المحتلة عام 1948 ،هي دولة خالصة لليهود ،واعترفتم بالصهيونية بأنها حركة تحرر وطني، وليست حركة عنصرية قائمة على استلاب أرض الغير وطرده وتهجيره، وعبرت إسرائيل عن ذلك على لسان وزيرة خارجيتها “تسيفي ليفني”، عندما قالت إن أراد الفلسطينيين قيام دولة لهم ،وأن يحتفلوا باستقلالهم،فعليهم أن يشطبوا كلمة النكبة من قاموسهم وذاكرتهم،أي تبرئة إسرائيل من كل جرائمها ومسؤوليتها عن تهجير الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه ووطنه وإلغاء لحق العودة ،وإذا ما أضفنا لذلك ما تقوم به إسرائيل من أفعال وممارسات على الأرض،حيث التصاعد والتسارع في البناء الاستيطاني، وعمليات القمع والإذلال اليومية بحق شعبنا الفلسطيني، فلا نحتاج أن نكون جهابذة أو مفكرين ومنظرين ،لكي نصل الى قناعات،بان هذا الوعد حتى يتحقق سيحتاج الى 60 عام أخرى،مادمنا نبني استراتيجياتنا ومواقفنا على وعود الغير الجوفاء والفارغة، وما دمنا مستقيلين من السياسة ومخصيين عسكرياً، وما دمنا نقبل بمفاوضة العدو بدون شروط، ونضع الشروط على التحاور بين أخوة السلاح والكفاح، ولعل هذا الخطاب لبوش،والذي دفن فيه وعده، يجعلنا نصحو ونفيق جميعاً،انه من أجل تحقيق حلمنا بالحرية والاستقلال والدولة المستقلة،فلا مناص من تجاوز عوامل ضعفنا وفرقتنا من خلال الحوار والوحدة ،وإعادة اللحمة والوحدة لشطري الوطن، والاتفاق على إستراتيجية سياسية موحدة ،وتقوية عوامل الصمود والوجود الفلسطيني،وإلا فإن الاستمرار في الرهان على الوعود الأمريكية والعديد من دول النظام الرسمي العربي،لن يقود إلا الى الضياع وتبدد الحقوق وخسارة ما راكمناه من منجزات ومكتسبات عمدت بشلالات من الدماء والمعانيات.
راسم عبيدات
القدس – فلسطين
16/5/2008