الطاهر العبيدي
وها أنا ذا يا وطن مازلت أسكن مدنا وتسكنني مسافات، أرتاد أماكن وتحاصرني ذكريات، أرافق أحبابا وتصاحبني شوارع وتفاصيل…
عيد مضى وعيد أتى وعيد انقضى
وها أنا ذا يا وطن كلما أعلنت نشرات الأخبار في
خبر عاجل نبأ حلول العيد، يفترسني الحزن ويعاودني ارتباكي الأول فأعدّ سنوات المنفى بأصابعي…
مرددا ” اثنين وتسعين، ثلاثة وتسعين، أربعة وتسعين، خمسة وتسعين، ستة وتسعين، سبعة وتسعين، ثمانية و تسعين، تسعة وتسعين، ألفين، ألفين وواحد، ألفين واثنين، ألفين وثلاثة، ألفين وأربعة، ألفين وخمسة، ألفين وستة، ألفين وسبعة، ألفين وثمانية…
عشرية وبضع سنوات وأنا منتشرا في صقيع الغربة مفتتا على أسوار الحنين.. ” وكل عام وأنت بخير يا وطن “
عشرية وحزمة من الأعوام في سلم أحزان المنافي أو في عمر سرقات الأوطان؟ لا أدري على وجه التحديد…ما أدريه يا وطن هو أن هذه السنوات الطوال كانت بلا عيد ” وكل عام وأنت بخير يا وطن”…
عشرية ونيف…رغم تناسل المهرجانات الباهتة فيك يا وطن، كانت كرنفالا متواصلا من الوجع والحنين…
وفي كل عيد كنت أردّد ” كل عام وأنت بخير يا وطن”
عشرية وبضع سنوات…أخرجت خلالها من الديار غدرا دون وداع، دون متاع، دون شراع، وباسمك يا وطن وقعوا مرسوم الغضب..” كل عام وأنت بخير يا وطن”
عشرية وربع…منفيّ أنا بحكم مزوّر، ومحكوم أنت بالتزوير من أخمس ترابك إلى أعالي جبالك، حتى وهم يفرّقوا بيني وبينك جمعتنا الأقدار تحت ظلم واحد…وتحت قدر واحد، وتحت وجع واحد ” وكل عام وأنت بخير يا وطن “
عشرية ونيف… مرّة، لاذعة..لذيذة حلوة المنافي وأنت تدري يا وطن، أنى على عشقك فطمت، وتأبي الخواطر إلا أن تتهادى إليك وتمشيك طولا وعرضا وأهتف لك في كل عيد ” كل عام وأنت بخير يا وطن”
سنين وشهور وأعوام طوالها بقيت أقف على عتباتك، أطالعك في التقارير وبيانات الإدانة، مرمي يا وطن في زنزانة أو مهتوك العرض في مخافر التفتيش، أو معلقا في محاضر البوليس أو مصلوبا على جدران الرصيف…وحين استشفّ أنك بعد حيّ تقاوم اهتف لك ” كل عام وأنت بخير يا وطن”
عشرية وربع.. خلالها ظلت نشرات الأخبار تحملك إليّ محنطا، مقنعا، لا حراك فيك سوى الهتاف الخاوي والتصفيق والصداع …”وكل عام وأنت بخير يا وطن”
عشرية وربع.. خلالها أسس البعض في هذا العالم أوطانا وفقد فيها آخرون أوطانهم وأنا يا وطن ما فقدتك ولا لقيتك…مازلت على حالك في عداد المفقودين،
ومازلت على حالي في عداد المشردين، “وكل عام وأنت بخير يا وطن “
عشرية ونيف…؟ تبادل فيها الناس في أوطانهم
تجارب البناء، وبنوا لأوطانهم مقامات، وأنت يا وطن بقيت بين معاول الهدم وبيانات الاعتراض…وها هو العيد يعود كما غيره من الأعياد ” وكل عام وأنت بخير يا وطن”
عشرية وكوم من الأعوام..تصالح فيها من تصالح، وفاوض فيها من فاوض، وباع فيها من باع…وها أنا يا وطن لا صالحت ولا فاوضت ولا قايضت ولا بعت لمشتريك…” كل عام وأنت بخير يا وطن”
عشرية ونيف…كل الذي تلقيته منك
يا وطن حكم بالنفي وأخبار نعي لأحبّة تسكن في الأعماق خناجر حزن وأسى…كل الذي أملكه فيك يا وطن بعض أحبة وبعض قبور…وها أنا ذا مازلت اسميك وطن، وأقول لك في كل عيد ” كل عام وأنت بخير يا و طن”
يا وطن حكم بالنفي وأخبار نعي لأحبّة تسكن في الأعماق خناجر حزن وأسى…كل الذي أملكه فيك يا وطن بعض أحبة وبعض قبور…وها أنا ذا مازلت اسميك وطن، وأقول لك في كل عيد ” كل عام وأنت بخير يا و طن”
عشرية وربع… تبادل الناس فيها مع أوطانهم تهاني العيد وهدايا العيد، وأنت يا وطن ظللت وطنا بالمجاز،
وأنا مواطن مع وقف التنفيذ….
“وكل عام وأنت بخير يا وطن”…
الطاهر العبيدي / صحفي وكاتب تونسي / لاجئ سياسي بباريس