خيري حمدان
ستّون عاماً أبحث عن ظلّك، عن رسمك. أسافر عبر أوردة الزيتون ورحيق الكرم حتّى محطّتي الأخيرة حيث أسلم الروح وأعانقك.
ستّون عاماً يا وطني المصلوب عند نوافذ الدنيا وسخرية الحضارات المندثرة. كأنّ الزمن توقّف لحظة لنكتب حرفاً ونسترجع شهقة.
أقرأ الليلة آيات العودة في زمن الغرام المسفوك ليلاً عند مرافئ حيفا ويافا تكاد تنسى العربية.
من هنا مرّ قطار العمر على عجل، وصاح حارس الكرم بملل: هل من مسافر؟
تنبذني المحطّات العابرة، تسحل جسدي دون هوادة، تضع فوق وجهي وجوهاً نزقة، وأمضي أبحث عن طيف أمّي. كيف نسيت الليلة وجه القمر؟ وكيف لفظتني الأسئلة عند زوايا الذاكرة؟ حادّة تحزّ الشريان التاجي بتؤدة.
ستّون عاماً يا وطني .. تقرع الكؤوس ملأى بالنبيذ، وترتفع الحناجر مهنّئة. يعلنون موتي ..
تاج وصولجان ومعمدان، والنجوم سداسيّة ترتفع فوق المآذن. انتظريني وسط هذه المقاصل. ربّما نختزل لحظات الموت والألم تحت وقع المطر. سهول ممدودة على مدّ النظر. رأيت الزيتون يبكي في المنام يوم الجمعة، رأيت وجهك الباهت يضيء في سماء الجليل.
تبتعد النوارس عن شواطئ المتوسّط، تبتعد عن موائد المجون السافرة.
بقينا نرقص فوق الجراح ستّون عاماً. الجمر يحرق الأقدام الحافية، والسجائر تطفأ في أصل العينين. هل بقي في صلاتنا متّسع لدعاء؟
يا إلهي، الى متى نستجدي بعض الهناءة، ورصاصة الرحمة أضحت لعنة؟
ستّون عاماً انقضت منذ انتحر القمر في مدار الثعالب التي هجرت أوكارها. سرقت قميصي الأبيض وأهدتني كفن .. شيّعتني، وأدتني، حرقت أوراقي، مسحت ذاكرة العودة في وعي أحفادي!
ستّون عاماً والحلم يراوح الكابوس. دهاليز امتدّت حتّى بوابة البيت الأبيض. تهيم روحي فوق مدريد، وكامب ديفيد مخيّم هجرة، يتّسع لقوافل الشجون الشرقية.
أحمل خيمتي وأوراقي وأرحل نحو نهرك الدافق. ستّون سنة أخرى أقضم خلالها روافد روحي، وأمضي مجدّداً نحو نهرك الدافق في شراييني.