يعتقد البعض أن المقاومة هي حاسة فطرية عند الناس ، وربما يكون الأمر صحيحاً بالقياس على ردات الفعل الطبيعية تجاه الخطر المحدق بالمرء خارجياً وداخلياً بالمعنى البيولوجي ، وفي علم وظائف الأعضاء . ولعل الشعوب تشبه في ذلك مكونها الأساسي ( الإنسان أو المواطن ) غير أنها تختلف في درجة وحجم هذه المقاومة ارتباطاً بطبيعة الخطر واتساع نطاقه ، وغير ذلك من عوامل تتوزع على مستويات مختلفة من ردات الفعل وتعتمد على درجة تماسك ووعي وظروف هذا الشعب ، ومن هنا فان نتائج التصدي لحالة الخطر إنما ترسمها عشرات العوامل الموضوعية والذاتية وقدرة العقل الجماعي والطبقة القيادية لهذا الشعب على فهم هذه العوامل وسلم الأولويات الواجب رسمه من أجل تسخير هذه العوامل أو تذليلها لخدمة نجاح المقاومة للخطر الداهم .
إن ما تعرض له الشعب الفلسطيني في نكبة عام 1948 وحالة الشتات القاسية قد شل قدرته على المقاومة بشكل مؤقت ، وكانت حالة الذهول الناجمة عن الانكسار والهزيمة كبيرة ولا تعطي أي فرصة في مقاومة ناجعة للمشروع الصهيوني المتجسد فوق أرض فلسطين ، واقتصرت جهود المقاومة على تحركات نخبوية للحفاظ على تمثيل سياسي للفلسطينيين شكل الاعتراف العربي بحكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي ذروته داخل الجامعة العربية ، وكما أشرنا فان عوامل التوزع الجغرافي الصعبة واختلاف الأنظمة الحاكمة في حينه وارتباطها جميعاً بالمستعمر الأجنبي وخصوصاً البريطاني صاحب وعد بلفور المشئوم قد جعل إمكانية المقاومة بشكلها المعاصر غير ممكنة ، بالإضافة لسوء الأحوال المعيشية للاجئين مما جعل البحث عن لقمة العيش وتوفير حياة إنسانية بحدها الأدنى الشغل الشاغل للناس ، واقتصر العمل من أجل المشروع الوطني على بعض الجوانب الثقافية والفكرية ارتباطاً بأحزاب قومية ودينية ويسارية عربية ، وأما العمل العسكري فقد كان تحت سقف الجيوش العربية واستراتيجيتها القطرية .
لقد مثل هدف استعادة الهوية الوطنية بسرعة وقبل أن ينجح الشتات في طي صفحة الأمل في العودة وبناء الوطن من جديد القاسم المشترك والهم لمعظم القوى والشخصيات الفلسطينية المتنورة ، واعتبر ذلك أولوية جسدها لاحقاً الإعلان عن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بقرار عربي ما كان ليظهر إلى العلن لولا الجهود الكبيرة التي بذلها المؤسسون الأوائل وعلى رأسهم الزعيم الفلسطيني الكبير أحمد الشقيري ، ورغم ارتباط المنظمة بالسياسات العربية وانصياعها لما تمليه قواعد العمل العربي المشترك والذي كان يخلو من هدف تحرير فلسطين ، رغم ذلك فقد مثل قيام منظمة التحرير إنجازاً كبيراً لتجسيد هوية الشعب الفلسطيني ، بل لقد اعتبرت المنظمة في فترة لاحقة الوطن المعنوي للشعب الفلسطيني والمعبر عنه ، وبعد ذلك وبسبب تطورات أملتها البندقية الفلسطينية المقاتلة تم الاعتراف العربي والدولي بشرعية ووحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني . إن الفترة الواقعة بين منتصف الستينات والسبعينات قد شهدت حراكاً فلسطينياً هائلاً رغم نكسة العام 1967 والهزيمة القاسية التي أنتجت احتلالاً كاملاً للأرض الفلسطينية ووضعت مزيد من العراقيل أمام مقاومة الشعب الفلسطيني للمشروع الصهيوني .
لكن هذه الفترة هي ذاتها التي حفلت بالإنجازات الكبرى للشعب والمقاومة ، ليس تولي الفصائل المقاومة قيادة المنظمة أكبرها . إن قرارات قمة الرباط عام 1974 والاعتراف بالمنظمة أملاه أكثر من عامل أهمها البندقية الفلسطينية والمقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني .
لم ترتبط شخصية أي شعب بالبندقية قدر ارتباط شعبنا وهويته بهذه البندقية ، ولو بحثنا في الأدب والثقافة الفلسطينية والفلكلور وكل أشكال التعبير لوجدنا موقعاً ريادياً متميزاً للبندقية والفعل المقاوم . إن ألم الشتات وظروف الإحباط التي تولدت في نفوس شعبنا العربي الفلسطيني جراء هزيمة الجيوش العربية ونكوث الأنظمة بوعد العودة للديار والوطن قد جعلت انطلاق العمل المسلح خشبة الخلاص ومحط آمال الناس في مستقبل يحقق اللاجئون من خلاله حلمهم في العودة ، ليس هذا وحسب بل إن المقاومة المسلحة هي التي حققت الوحدة الوطنية مثلما وحدت الشتات .
لقد تم تكوين ثقافة ووجدان جمعي عبر سنوات الجمر كما يقولون وعلى وقع خطوات الشهداء وأزيز الرصاص وزاد من تمسك الشعب الفلسطيني بمقاومته حدة المؤامرات والخطوات التي كانت تتخذ من قبل معسكر الأعداء لإنهاء حالة المقاومة وإفشال مشروعها الوطني .
إن هدف إقامة الدولة الفلسطينية لم يكن يمثل في هذا المشروع سوى قسم محدد من أقسامه، وموضوع العودة وحق تقرير المصير والسيادة وغيرها تشكل باقي الأقسام ولا تقل أهمية عن الأول، لكن هذا كله يصبح في عداد الوهم والتمنيات بدون المقاومة وثقافتها الجامعة والتي تعرضت للامتهان على يد البعض في بعض المفترقات وأمام بعض الصعوبات والعراقيل والهزائم .
نحن لا نقصد بالتأكيد جعل البندقية شكلاً وحيداً للعمل المقاوم لان هناك أشكال كثيرة وفي ظروف معينة تصبح بأهمية البندقية وربما أكثر ، لكننا لا نستطيع إغفال الدور الحاسم الذي لعبته البندقية المسيسة في توحيد شتاتنا الموزع على دول الطوق مختلفة السياسة والبناء الاجتماعي والتقاليد .
لذلك فان الاستغناء عن البندقية في سياق مقاومتنا للمشروع الصهيوني وفي سبيل إنجاز مشروعنا الوطني وتحقيق العودة والدولة هو ضرب من العبث وحرف المسائل عن جادة الصواب لأسباب يأتي في طليعتها طبيعة المشروع الصهيوني والقائمين عليه .
لا يستطيع أي قائد أو مفكر سياسي فلسطيني أن ينحي المقاومة العسكرية أو المقاومة العنفية المسلحة من أدواته لنيل حق الفلسطينيين في أرضهم ، وأي قائد يفعل ذلك سيفشل حتماً ولن يكتب لكل ما يقوم به النجاح ، ولعل تجربة أوسلو أكبر شاهد على ما نقول ، وما نراه اليوم من استخفاف إسرائيلي وتعنت وعدم التزام تجاه عملية السلام يعود في أحد أسبابه الرئيسية لاستبعاد الرئيس محمود عباس خيار المقاومة العنيفة وخيار السلاح في مفاوضاته معهم ، وربما يكتشف السيد عباس ذلك متأخراً .
إن التئام شمل الشعب الفلسطيني وانخراطه في مؤسسات جامعة وقدرته الآن على الوقوف بوجه المشروع الصهيوني واستعادته لهويته الوطنية كان بفعل المقاومة التي اشتدت مذ تحرر الفلسطينيون من القيود التي فرضتها عليهم الأنظمة العربية حتى وقت قريب وبالتالي امتلاكهم لخيارهم الوطني بحرية أكبر ، وكان ناظم هذا الإنجاز وأس نجاحه الكفاح المسلح والبندقية المقاتلة. إن إعادة الاعتبار لهذا الخيار ودراسة إمكانياته يجب أن يشكل هاجساً لكل الحريصين على تجاوز المأزق الذي نجد أنفسنا فيه الآن ، وربما من المفيد استغلال التهدئة المفروضة علي المقاومة للبحث في كيفية استعادة الدور الريادي للمقاومة بعيداً عن المغامرة والتسطيح .
الزمن لا يعود للخلف هذا صحيح ، لكنه أيضاً لا يعمل لمصلحة فريق ضد فريق وإنما ينصاع لمن يأخذ بناصية المبادرة لضرب مفاصل المشروع المضاد لإنهاكه والانتصار عليه وهنا لابد أن يعطى للمقاومة المسلحة دوراً مهماً كما العناوين الأخرى للمواجهة بكل أبعادها ، واستطراداً فان عملاً جدياً بهذا الخصوص وفي الذكرى الستين للنكبة يصبح أمراً ملحاً وفي الأولويات .
وأخيراً وعلى ضوء بوادر فشل هدف الدولة المستقلة الذي مثل جوهر البرنامج السياسي الوطني الجامع لكل الفصائل الفلسطينية والعمود الفقري للمشروع الوطني الفلسطيني عبر الوسائل السلمية والمقاومة اللاعنفية ما الذي يمكن أن نفعله لإبقاء مشروعنا على قيد الحياة ؟
زياد ابوشاويش