لم تكن النكبة الوطنية القومية الكبرى, عام 1948, قدراً على الشعب الفلسطيني. هي حدث زلزالي كبير, شكل تتويجاً لمسار تاريخي رسمه الانتداب البريطاني بالتعاون مع الحركة الصهيونية, وبتواطؤ من الأنظمة الإقطاعية العربية, وفي ظل تخلف علمي وعملي سياسي ونضالي ملموس، وقصور في قدرات القيادات الوطنية الفلسطينية ودورها حينذاك، بلغت درجة التصفية الجسدية للقيادات النقابية العمالية (سامي طه نموذجاً)، والقيادات السياسية النضالية التي برزت متقدمة من صفوف الطبقة الوسطى، عن القيادة التقليدية الإقطاعية السياسية.
في تلك الفترة امتلكت الحركة الصهيونية كل ما تحتاجه لينتصر مشروعها الاستيطاني الاحلالي العنصري: البرامج والخطط العلمية مرحلة بعد مرحلة على الأرض وفي الميدان، قوة القرار, وقوة التنظيم, وقوة التسلح والتدريب, وعلاقات دولية, وصفقات سرية مع بعض العواصم العربية.
وفي تلك الفترة أيضا, افتقر شعبنا إلى القيادة الفاعلة, والتنظيم, والتدريب والتسليح, وبفعل سؤ الأداء القيادي لحركته الوطنية، بقيت قضيته تحت وصاية إقطاعية عربية راهنت على وعود «الصديقة» بريطانيا.
تمزق الكيان الوطني الفلسطيني وقام على أنقاضه كيان صهيوني. وتشرد شعب فلسطين, وتبددت هويته الوطنية. وصارت الغالبية العظمى من أبنائه لاجئين تأويهم مخيمات بائسة. ووضعت كل الخطط والمشاريع اللازمة لإخراج قضيته من التاريخ، وهذا ما وقع تنفيذه عملاً بالمعادلة الصهيونية “فلسطين أرض بلا شعب، شعب بلا أرض” بإقامة دولة إسرائيل الموسّعة، وما تبقى أرضاً وشعباً ضمه وإلحاقه بالدول العربية المجاورة، وهنا الخطأ ـ الجريمة الإستراتيجية ـ النكبة.
إلا أن اللاجئين الفلسطينيين, حافظوا على تمسكهم بقضيتهم وقاوموا كل خطط التوطين ومشاريعه, وصانوا وحدتهم المجتمعية من خلال آليات عفوية فرضت نفسها داخل المخيمات, بحيث نجحوا في فرض قضيتهم على المنطقة, وأصبح حلها بما يرضي اللاجئين ويستجيب لحقوقهم شرطا لم تستطيع الدول العربية أن تتجاوزه نحو علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني.
وكما احتلت قضية اللاجئين الفلسطينيين موقعاً مميزاً في السياسات العربية الإقليمية، كان طبيعياً أن تحتل موقعاً مماثلاً في المشروع الوطني الفلسطيني الذي صغناه بمبادرة الجبهة الديمقراطية والمعروف ببرنامج النقاط العشر في العام 1973، وأدخلنا عليه التطويرات اللازمة وكافحنا إلى أن تبنته المؤسسات الفلسطينية عام 1974 باعتباره برنامج الإجماع الوطني لشعبنا وقواه السياسية, وتحت شعار مازال يشكل البوصلة نحو تحقيق الأهداف الوطنية: العودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة. وعلى قاعدة هذا البرنامج, شقت القضية الوطنية الفلسطينية طريقها إلى المحافل الدولية في مقدمتها الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبارها قضية شعب يناضل من أجل حقوقه الوطنية المشروعة غير القابلة للتصرف. وقد أثبتت الأمم المتحدة صدقية مواقفها هذه بسلسلة واسعة من القرارات ذات الصلة, والتي لم تكن لتصدر لولا البرنامج الوطني الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية الائتلافية وباتت بموجبه الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا, ويشكل لها في الوقت نفسه عامل استقطاب لتأييد عربي ودولي واسع, نجح في عزل الولايات المتحدة وإسرائيل دولياً.
وأظهر برنامجنا الوطني المرحلي الموقع الحاسم لقضية اللاجئين وحق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها, في إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني, عن طريق الحل الديمقراطي الذي تبنته جنوب أفريقيا وشكل تتويجا لكفاح المسلح. ولعل هذا ما دفع أحد قادة الحركة الصهيونية, بنيامين نتنياهو ليعترف في كتابه «مكان تحت الشمس» أن أخطر ما أنتجه العقل السياسي الفلسطيني هو البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية. لأنه يهدف. كما قال نتنياهو ـ إلى إعادة ملايين اللاجئين الفلسطينيين إلى «إسرائيل» وتقويض القلعة من الداخل من خلال اللعبة الديمقراطية التي ستوفر للفلسطينيين الأغلبية العددية, وبما يمكنهم من إعادة صياغة «إسرائيل» ونفي صفتها الصهيونية. وكم كان نتنياهو يتمنى لو أن الفلسطينيين بقوا يرفعون شعار «رمي اليهود في البحر» ففي ذلك خدمة لدولة «إسرائيل» ـ كما يقول نتنياهو ـ بحيث تبدو في عيون العالم الطرف الضعيف المهدد بالفناء على يد الإرهاب الفلسطيني والعربي فتنال عطف الشعوب والحكومات.
بعد ستين عاما على النكبة لا نستطيع أن ندعي أن التاريخ يعيد نفسه, رغم تشابه بعض الملامح هنا أو هناك. فلقد مرت تحت جسر القضية الفلسطينية مياه كثيرة. وقدم الشعب الفلسطيني تضحيات أعادت قضيته إلى الموقع الذي تحتله في اهتمامات الرأي العام وعواصم القرار, وفي قلب حركة التحرر والتقدم والدمقرطة العربية والدولية وأحزابها المناضلة. دون أن يعني هذا أن القضية لم تمر في منعطفات خطرة شكلت تهديدا استراتيجيا للمسيرة الكفاحية للشعب الفلسط
يني.
يني.
ولعل المرحلة التي تعيشها قضيتنا الوطنية في اللحظة الراهنة, تشكل مثل هذا التهديد من موقعين:
الأول: هو حالة الانقسام التي تعيشها الحالة الفلسطينية في ظل لجوء فتح وحماس إلى الانقلابات السياسية على برنامج وثيقة الوفاق الوطني الموحّدة (حزيران/ يونيو 2006)، والتراجع إلى الخلف عن الوحدة الوطنية نحو صفقات المحاصصة الاحتكارية الثنائية (اتفاق 8 شباط/ فبراير 2007) الذي فتح جحيم الحرب الأهلية بينهما، واندفاع حركة حماس إلى الحسم العسكري في قطاع غزة. مما وضع الحالة العربية, والعالمية أمام كيانين فلسطينيين بالقوة المسلحة وعلى النقيض من قوانين ودروس حركة التحرر الوطني في العالم الثالث، وبالصدام مع حلول الحوار الديمقراطي السلمي لقضايا التعارضات في الصف الفلسطيني, منفصلين عن بعضهما البعض. فانفرط عقد الوحدة الداخلية, وصار الصراع على المصالح الفئوية الضيقة هو المحور الرئيسي, على حساب الصراع مع العدو الإسرائيلي. وأصبح المشروع الوطني الفلسطيني الموحّد مهدداً بالتآكل لصالح مشروع إسرائيلي ـ إقليمي عربي ينزع نحو إعادة الوضع الفلسطيني إلى ما كان عليه قبل 1967 أي إلغاء الكيانية الفلسطينية وإعادة إدخال الوضع الفلسطيني تحت الوصاية العربية.
الثاني: المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية, الدائرة بلا مرجعية دولية وبلا سقف زمني محدد, وبعيداً عن بحث قضايا التسوية السياسية الشاملة, لصالح الاستغراق في القضايا الجزئية والهامشية, في الوقت نفسه يواصل الاستيطان التهامه للأرض الفلسطينية بوتيرة متسارعة تهدف إلى فرض وقائع تلغي إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة, وقابلة للحياة, بحدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. كما تسقط حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم, لصالح المشاريع البديلة, من توطين أو إعادة تهجير. كما يواصل العدوان تصاعده ضد أهلنا في الضفة الفلسطينية والقطاع, بهدف تحطيم إرادة الصمود, ودفع الحالة الشعبية المرهقة والمنهكة (من الانقسام والعدوان والحصار والتجويع) إلى التسليم بالحلول الإسرائيلية ـ الإقليمية.
يراهن أصحاب السياسة الأولى (الانقسام) على عامل الزمن في أن يفعل فعله الإيجابي في سياسة انتظارية أثبتت التجارب أنها لا تعود على الحالة الفلسطينية إلا بالخسائر الصافية. فعامل الزمن لا يفعل لصالح شعب, قواه السياسة منقسمة على ذاتها وبرنامجه الوطني معلق على الجدار, وصراعه مع العدو مؤجل لصالح الصراعات الداخلية بين تياراته السياسية وفئاته المختلفة.
كما يراهن أصحاب السياسة الثانية على دور تلعبه الولايات المتحدة في الضغط على العدو الإسرائيلي ليستجيب للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني, بما يعيدنا بالذاكرة إلى المراهنات العربية الفاشلة على صداقة بريطانيا الانتدابية, بديلا لتفعيل عناصر القوة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال, وهي كثيرة.
ينطلق البعض من الواقع الحالي لينذر بإمكانية حصول نكبة جديدة في العام الستين لنكبة 1948. تكون بنتائجها وتداعياتها أكثر قسوة من سابقتها. نحن بدورنا لا نستبعد من حساباتنا أن يلحق الضرر الشديد بالحالة الفلسطينية, وبما يصل إلى مستوى نكبة جديدة, إذا ما استمر الطرفان, فتح وحماس, على سياستهما الاحتكارية الانقلابية, لذلك كنا في مقدمة من طرحوا مبادرة وطنية لإنهاء حالة الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية (4/7/2007)، وإعادة تصويب الأوضاع والتوجهات السياسية نحو التناقض الرئيسي مع العدو الإسرائيلي. ولقد تحولت مبادرتنا بالتعاون مع قوى أخرى في الحالة الفلسطينية, إلى مبادرة وطنية تبنتها القوى كافة وأعلنتها في 12/4/2008 في غزة والضفة الفلسطينية (ما عدا حماس وفتح) بالإضافة إلى فعاليات اجتماعية وثقافية في الضفة والقطاع.
ومن هنا نخلص إلى أن اليسار الوطني والقوى الديمقراطية في الحالة الفلسطينية يتحملون عبئا مميزا في تصحيح مسار النضال الوطني وتصويبه, وهو ما أملى علينا التحرك لأجل بناء جبهة وطنية متحدة من القوى اليسارية والتقدمية والليبرالية الفلسطينية, تشكل رافعة في الحالة الفلسطينية, وعامل استقطاب للعديد من الفعاليات والشخصيات والفئات الاجتماعية, التي لم تعد ترى في برنامج فتح وحماس ما يلبي مصالحها, وما زالت ترى أن مصلحتها في إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني الفلسطيني, الذي أعادت تظهر عناوينه وأهدافه وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى) في 27/6/2006.
الذكرى الستون للنكبة بالنسبة لنا, محطة لاستخلاص الدروس, ومراجعة الذات, وممارسة النقد الذاتي في أكثر من كتاب (“أوسلو والسلام الآخر المتوازن”، “أبعد من أوسلو … فلسطين إلى أين ؟”، “الانتفاضة ـ الاستعصاء ـ فلسطين إلى أين ؟”، “حواتمة يتحدث”), ونقد سياسات القوى الأخرى في إطار الحوار النقدي بالوقائع والأسماء … الخ, التي انقلبت على الوحدة الداخلية كما انقلبت على البرنامج الوطني الفلسطيني.

60; الذكرى الستون للنكبة محطة كفاحية جديدة, لتقريب ساعة النصر والخلاص من الاحتلال, وعودة اللاجئين، ولا نصر بدون إنهاء الانقسام وإعادة بناء الوحدة الوطنية بقوانين ديمقراطية تقوم على الشراكة الوطنية الشاملة وفق التمثيل النسبي الكامل داخل الوطن وفي أقطار الشتات عملاً بمبدأ “شركاء في الدم شركاء في القرار”.
60; الذكرى الستون للنكبة محطة كفاحية جديدة, لتقريب ساعة النصر والخلاص من الاحتلال, وعودة اللاجئين، ولا نصر بدون إنهاء الانقسام وإعادة بناء الوحدة الوطنية بقوانين ديمقراطية تقوم على الشراكة الوطنية الشاملة وفق التمثيل النسبي الكامل داخل الوطن وفي أقطار الشتات عملاً بمبدأ “شركاء في الدم شركاء في القرار”.
الأميــن العــام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين