مع مرور الذكرى الستين على نكبة فلسطين، اقترب موعد السنوية الأولى على النكبة الثانية والتي جسدت انفصال شقي الوطن بعد توجيه صفعة قاسية لكل المفاهيم الفلسطينية عن الوفاق والوحدة الوطنية بانقلاب قسا على القضية الفلسطينية كثيراً، وخدم الأهداف الخبيثة للأعداء، بعد أن قصم ظهر الرفقاء وشتت جمع الأصدقاء. تزامنت هذه الذكرى مع تطورات كبيرة على الصعيد الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وعلى الصعيد المحلي من ناحية أخرى، وهي تطورات تحمل في طياتها الكثير والكثير من التوقعات والاحتمالات.
ففي الوقت الذي بدأت تنطلق فيه احتفالات الدولة العبرية بتأسيسها المزعوم، انطلقت رصاصات الفتنة تفتك بوحدة هشة في لبنان، معيدة لذاكرتنا سنين حرب أهلية حرقت قلوبنا قبل أن تحرق أرض لبنان، ورغم وقف إطلاق النار والهدوء الحذر إلا أن تجاربنا السابقة علمتنا أنه إذا لم توأد هذه الفتنة من أساسها ويقطع دابرها، فاحتمالات عودتها واردة وبقوة في القريب العاجل. الخلاف الداخلي اللبناني عبر عن خلاف أكبر وأوسع من ظاهر الأمر، فحتى في إطار اجتماعات الجامعة العربية لمناقشة الأوضاع في لبنان، انقسمت مواقف الدول العربية في تأييد هذا الطرف أو ذاك، وانتقلت حمى الخلاف إلى ساحة الإعلام العربي، فأصبح يسيراً أن تلحظ هذه الفجوة في المواقف في نقل القنوات الإخبارية المهنية لأحداث لبنان حين تبنت هذه القناة موقف هذا الطرف، وتبنت تلك القناة موقف الطرف الآخر ليتعمق الخلاف أكثر وأكثر.
إن ما يحدث في لبنان اليوم يعتبر مؤشر خطير في المنطقة وله أبعاد غاية في الخطورة، ففي حين تكاد تنطق فطرتنا جميعاً أن المستفيد الأول لما يحل بلبنان هي إسرائيل، قال قائد جيش الاحتلال الإسرائيلي السابق أمنون شاحاك صراحة أن سيطرة حزب الله على لبنان يصب في مصلحة إسرائيل لأن حزب الله سيحمل لبنان كله تبعات تصرفاته. وفي الوقت الذي تتحرك القطع البحرية الأمريكية والفرنسية تجاه سواحل لبنان يبدو جلياً أن ما حدث في لبنان اليومين الماضيين إشارة بدء لعملية أكبر وأوسع من حدود لبنان وحده، فمازال أحمدي نجاد يطلق تصريحاته الصاروخية المهددة والمتوعدة لإسرائيل تارة، والمؤكدة على استمرار إيران في تطوير برنامجها النووي تارة أخرى، بينما تظل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل مستمرتان في حشد كافة طاقتهما الدبلوماسية لإقناع دول العالم بالخطر الداهم الذي تشكله إيران على السلم العالمي.
لم تقف حدود طلقات الفتنة عند حدود لبنان، بل وصلت إلى السودان في منظر غير متوقع على مسرح الشرق الأوسط المليء بالمفاجآت، فما أن بدأت تستيقظ السودان من كابوس الجنوب المزعج وإبرام اتفاقيات السلام هناك، استيقظت ذات يوم على طلقات حركة تحمل في اسمها معاني عظيمة (العدل والمساواة)، والتي تبنت هجوماً ملامحه مريبة، ثم هجومين فثلاث، وإذ بالعربات تحترق والجثث تنتشر، ثم منع للتجوال وقطع علاقات مع تشاد واعتقال للترابي. وغير بعيداُ عن المشهد في الخرطوم وأم درمان، كان المشهد الصومالي وهو المشهد القديم الجديد الذي نهش من جسد الصومال طويلاً وكثيراً، وبات أكثر وضوحاً مع تجسيد ملامح احتلال أثيوبي بدأ يقسو أكثر وأكثر على المدنيين الصوماليين في حربه ضد الإرهاب متمثلاً بالمحاكم الإسلامية، ومطبقاً للدروس التي تعلمها بجدارة من المخرج الأمريكي الذي مازال يبطش بأبناء العراق في مطاردته الشهيرة ” الحرب على الإرهاب”. أما إن عبرنا البحر، نجد أن اليمن تستقبلك بمشهد أكثر دموية وبالتحديد في صعدة بعد أن فتحت حادثة تفجير المسجد هناك جرحاً غائراً لم يلتئم بعد، فاندلعت الهجمات المتبادلة بين الحكومة اليمنية وأتباع الحوثي ومازالت حصيلة القتلى والجرحى في ارتفاع من أبناء اليمن الواحد حوثيين وحكوميين. ثم نتساءل أتطلق إسرائيل احتفالاتها اليوم بقيام واستمرار دولتها العبرية ستين عاماً أما بتمزق وتشتت العرب من مشرقه إلى مغربه عاماً بعد عام؟!
وإذا انتقلنا إلى المشهد المحلي، نجد أنه مع استمرار الفصل المقيت بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ومع تضييق الخناق على قطاع غزة في حصار تشتد قسوته أكثر فأكثر في ظل استمرار التجاهل الدولي والغيبوبة العربية، لا يبدو في الأفق القريب أي بوادر تدعو للتفاؤل بقرب وفاق وطني أو إعادة المصالحة والوحدة. من ناحية أخرى، يبدو أن عملية السلام تلقت ضربات متتالية شوهت ملامح الحلم الجميل الذي راود البعض بعد مؤتمر أنابوليس حين ظنوا أن الدولة الفلسطينية باتت على عتبة العام المقبل. فما أن رجع الرئيس الفلسطيني من واشنطن وبعيد لقاءه مع الرئيس الأمريكي، ظهر أن راعي السلام يتبنى بشكل واضح الموقف الإسرائيلي وبدد أي شك في حيادية مفترضة لدوره في عملية السلام، فتناقلت وسائل الإعلام الرؤية الأمريكية التي تنسجم مع المطالب الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس وقضية اللاجئين، وهي ذاتها التي لم تقوى
على الضغط على الطرف الإسرائيلي لتجميد الاستيطان الذي يهدف صراحة لتغيير معالم الأرض وفرض سياسة الأمر الواقع ، وهو أمر لم يعد سراً أو محل شك. وإذا ما أخذ في الاعتبار اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، تبدو فرص تحقيق السلام والوصول إلى الهدف المنشود بإقامة دولة فلسطينية هذا العام ضئيلة للغاية.
على الضغط على الطرف الإسرائيلي لتجميد الاستيطان الذي يهدف صراحة لتغيير معالم الأرض وفرض سياسة الأمر الواقع ، وهو أمر لم يعد سراً أو محل شك. وإذا ما أخذ في الاعتبار اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، تبدو فرص تحقيق السلام والوصول إلى الهدف المنشود بإقامة دولة فلسطينية هذا العام ضئيلة للغاية.
ثم تظهر فضيحة جديدة في إسرائيل متمثلة بتحقيقات جنائية يواجهها أولمرت كعقبة جديدة في وجه عملية السلام، فقد أعلن رئيس الحزب الوطني الديني في إسرائيل ورئيس حزب ميريتس عزمهما تقديم مشروع قانون من شأنه أن يوقف رئيس الوزراء من منصبه مؤقتا لأسباب صحية أو في حالة إجراء تحقيق جنائي ضده. التطور الطبيعي للأحداث السياسية في إسرائيل يشير بقوة إلى انتخابات مبكرة في إسرائيل بعد شهرين من الآن على أبعد تقدير إن قدم أولمرت استقالته أو أقيل، ويبقى أقوى مرشحين لخلافة أولمرت في رئاسة الوزراء أيهود باراك الطامع لانتزاع صفة البطل القومي على غرار شارون، وهو من ينتظر أي فرصة للانقضاض على قطاع غزة والبطش بالفلسطينيين لرفع أسهمه في الشارع الإسرائيلي، أما المرشح الثاني فهو بينيامين نيتنياهو المتشدد والرافض لفكرة قيام دولة فلسطينية، الذي قالها صراحة في تصريح سابق له أنه لا يجب أن يكون هناك دولة فلسطينية على الإطلاق.
وبعد مرور كل تلك السنين العجاف، وفي ظل حقبة من التخبط والتشرذم والاختلاف، تبقى انعدام الرؤية وانحسار الخيار أكبر دوافعنا نحو اتخاذ القرار، قرار بعيد عن حسابات الدول الكبار، ويعني فقط بمصلحة فلسطين أولاً وقبل أي اعتبار، قرار يعنى بالعمل على تطوير أنفسنا، وتنسيق خطواتنا، وجمع كلمتنا، ورص صفوفنا، وتوحيد خبراتنا، ومن ثم الانطلاق نحو تحقيق أهدافنا وغايتنا.