حاورته: رشا عبدالله سلامة
بقدر ما هي مترامية الأطراف، قاسية الطبيعة، وملتهبة بشمس حارقة بقدر ما تحتضن برمالها الذهبية أبناءها بحنان بالغ. هي الصحراء.. التي وإن أرغمها الجبابرة على مفارقة مواليدها الغضين، فإنها لا تفتأ برغم ذلك ترقبهم بعين الحب والحنان، فتسلمهم إلى أخواتها اللواتي لا يتوانين عن ذات الحب.
إنها صحراء بير السبع الفلسطينية التي احتضت منذ الأزل خيوط الشمس الساطعة بشموخ وجبروت حتى أشعل اليهود ذات يوم شمسها الحنونة لتغدو حريقاً لا يُحتمل، فودعت قاطنيها المكلومين، موصية في احتضارها أخواتها بأن يتعهدن أبناءها بالرعاية حتى ينفث الله في روحها من جديد ليعود الأبناء إلى حضن أمهم الأول.
بسمرتها الدافئة وقلبها الأدفأ، فتحت صحراء الجفر الأردنية حضنها لتضم أحد أطفال بير السبع بعد استشهادها على يد المحتلين.
ردد صدى بير السبع لحظة احتضارها شهيق بكاء ابنها عودة عواد ذي الثمانية أعوام، الذي وجد ذاته على حين غرة يهرع مع أهالي تلك الصحراء الذهبية التي اختلطت رمالها بالدم الذي هدره اليهود. آلاف الخائفين يتراكضون هلعاً.. حملته أقدامه الصغيرة معهم فلم يفقد أمه بير السبع فحسب، بل فقد جميع من احتضنتهم فيها طوال السنين.
بدموع تخضب لحيته البيضاء يستحضر تلك اللحظات التي لم تغب عن ذهنه يوماً. يقول “ركضت مع أهالي بير السبع هرباً من المحتلين، قطعنا المسافات الطويلة مشياً على الأقدام. لم أدرك حينها ماذا حصل. كل ما أدركته هو أن غزاة قساة انقضوا علينا. نظرت حولي فلم أر أحداً من عائلتي. ضاعوا مني في الزحام”.
امتزجت دموع الطفولة بدموع الكبر عند وصف تلك اللحظات. وبصوت لم يخفف من آلامه ستين عاماً يضيف الشيخ عودة “مررنا على مناطق عدة ونحن نمشي على الأقدام. كنت التفت حولي بخوف: ماذا حصل؟ أين أهلي؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ لم تكن هنالك إجابة. حتى الكبار لم يكن لديهم إجابة. وصلنا الخليل ومكثنا فيها لمدة”.
ينظر في عيني الحاج جلعود أبو تايه الذي يجلس إلى جواره وكأنما يُذكّره بنظرات الضياع التي ملأت عينيه في تلك اللحظات. تمتزج دموعهما التي جمعتهما طوال الستين عاماً الماضية. تخنقه دموعه، فيتناول الحاج الثمانيني جلعود خيط الحديث، ليرحمه من ألم تلك الذكرى “كنت هناك في الخليل مع مجموعة من المجاهدين من أبناء عشيرة الحويطات، لمحت طفلاً يبكي ويسأل عن أهله الذين ضاع منهم وضاعوا منه لحظة سقوط بير السبع. لم يطاوعني قلبي المجروح لحال فلسطين وأهلها أن أتركه خصوصا أنه لم يكن يعلم غير اسمه واسم والده. أخذته معي إلى الجفر عندما عدت إلى الأردن. ومنذ ذلك اليوم أصبح ابني الذي لم أنجبه”.
يربت بحنانه الأبوي على كتف الشيخ عودة الذي تحاصره تلك الآلام منذ ستين عاماً، قائلا “كان يتصف بالصدق والحياء منذ التقيته وأخذته معي إلى الجفر.لم تكن مداركه الطفولية مستوعبة لأبعاد المأساة، لكن حزناً عميقاً كان يسكنه.الدموع لم تجف يوماً من عينيه وكأن بيئة الصحراء في الجفر كانت تذكره ببيئة بير السبع المجروحة بذات القدر الذي تمنحه فيه الأمان لتقارب الاثنين”.
يردف الحاج جلعود بينما تنتهز دموعه لحظة غفلة من الشيخ عودة عنه ليبوح بآلامه من غير أن يضيف على أحزان الطفل الذي غدا شيخاً الآن. يقول “تعهدته بالرعاية، وكنت أغدق عليه في المحبة والحنان التي حرم منهما. قلبي كان يتقطع على ما حل به. عاش في بيتي ومع عائلتي كأحد أبنائي. تقاسمنا جميعاً كل اللحظات والأحداث بحلوها ومرها، حتى استقل عني في سكن بجانبي بعد أن أصبح له دكان صغير يعتاش منه”.
تنهمر دموعه بسخاء كما سخاء طيبته وأبوته. يمسح دموعه كي لا تثقل على ذكريات الشيخ عودة أكثر. يكمل “الناس هنا في الجفر أصبحوا يسمونه عودة جلعود، لأنه بمثابة ابني. لم يكن ذلك يجوز شرعاً، كما أن الطفل كان يحفظ فقط اسم والده وهو عواد. كنت أتمنى برغم كل محبتي له وتعلقي به كواحد من أبنائي أن يعلم عن مصير أهله شيئاً”.
يفيض قلب الحاج جلعود حزناً على الشيخ عودة
. يرمقه بكل حنان الأبوة كي يمنحه قوة احتمال سرد ذلك اليوم الذي تعرف فيه على أهله. بصوت جريح ترافقه دموع لم تتوقف، يقول الشيخ عودة “في الثمانينيات، وبعد أن كان أهالي الجفر جميعاً يعلمون قصتي، وصل إلى مسامع أشخاص من بير السبع أنني أنا عودة عواد أعيش في الجفر بعدما ضعت عن أهلي يوم احتلال أرضنا. جاء أناس من بير السبع والتقيتهم، وبعثت معهم رجاء يتوسل بالدموع كي يعثروا على أحد من عائلتي”.
. يرمقه بكل حنان الأبوة كي يمنحه قوة احتمال سرد ذلك اليوم الذي تعرف فيه على أهله. بصوت جريح ترافقه دموع لم تتوقف، يقول الشيخ عودة “في الثمانينيات، وبعد أن كان أهالي الجفر جميعاً يعلمون قصتي، وصل إلى مسامع أشخاص من بير السبع أنني أنا عودة عواد أعيش في الجفر بعدما ضعت عن أهلي يوم احتلال أرضنا. جاء أناس من بير السبع والتقيتهم، وبعثت معهم رجاء يتوسل بالدموع كي يعثروا على أحد من عائلتي”.
يجهش في البكاء وكأنما تهب عليه نفحات بير السبع بشمسها الحارقة يوم استشهادها. بنبرة كشفت معها عمق الفجيعة يقول “وصل ندائي. استطاع أولئك الأقارب التعرف على أحد من أهلي: أخي وهو الوحيد الذي كان مايزال متبقياً من عائلتي بعد وفاة والديّ”.
تنهار قوته. يطرق بوجهه وسط كفين امتلأتا دموعاً حارة كحرارة بير السبع. يشهق كمن فاضت بقلبه المكسور مواجع تلك السنين مجتمعة.. دقائق طوال مرت على تلك الشهقات الملتهبة، قبل أن يقول “رأيت أخي.. قست علينا الدنيا كثيراً حتى في تلك اللحظة. لم أعلم ماذا أفعل وبماذا أعبر له.. عندما نظرت إلى وجهه دار أمام عيني شريط الذاكرة كله.. في لحظات كلمح البصر رأيت بير السبع برمالها وشمسها ودمائها. رأيت المحتلين وهم يتناوشونها. رأيت ذاتي وأنا أركض خوفاً.. ورأيت ضياعي طوال تلك السنين من غير أن أعلم أين ذهبت عائلتي.. رأيت أمي وأبي المتوفيين يبتسمان حزناً عليّ أنا وأخي.. رأيت كل ذلك قبل أن اقترب منه على وجل لأحتضنه بعد أن فقدت الأمل بأن أعلم عن ذاتي شيئاً”.
ينفجر في عويل نطق بمأساة عمرها ستون عاماً. وكما كفكف ذلك الحنان الأبوي من الحاج جلعود دموع الطفولة آنذاك، احتضن بصدره الحنون عويل الشيخ عودة في هذه اللحظات والذي اكتشف يوم لقاء أخيه أن اسمه بالكامل هو عودة عواد أبو عنقة.
أفلح حنان الحاج جلعود للمرة المائة ربما على مدار تلك السنين في تهدئة إعصار الأحزان الذي عصف ومايزال بقلب الشيخ عودة، ليتماسك للحظات، قائلا “تبين أن أخي لجأ في أعقاب مأساتنا إلى مصر. ولأنني لا أملك أوراقاً ثبوتية على الإطلاق آثرت أن أظل في الجفر حتى آخر لحظة في حياتي، فلا هو يملك المكوث برغم عودته لي بعدها مراراً، ولا أنا أملك حتى مجرد التنقل من الجفر. وكأن الله عوضني عن كل هذه المآسي بحب الناس هنا.. فأنا لست إلا ضائع عن أرضي وأهلي وبدون أي أوراق تثبت من أنا.. فكانت الجفر الحضن الوحيد لي منذ تاريخ ذلك الضياع”.
يطرق بعيداً بعينيه المحمرتين من كثرة البكاء. يعود للحديث “حتى أخي الوحيد المتبقي لي من عائلتي توفي بعد أن رأيته لمرات معدودة لم ترو ظمئي منه.. كنت أحتاج إلى مئات السنين قبل أن أستعيض عن كل ما فقدته بغيابهم”.
تتلقف الشيخ عودة طوال الحديث نوبة بكاء وأخرى أشد، وخصوصاً تلك التي رافقت حديثه عن عدم تمكنه أداء فريضة الحج لعدم وجود أي اثبات عن شخصيته. يقول بصوت يتقطع لشدة الألم “حاولت الحج عام 1975 وذهبت إلى الحدود مشياً على الأقدام ولكن لم يُسمح لي بالدخول لأنني لا أحمل أي إثبات شخصي. ظل لدي أمل غير أن وضعي لم يتغير حتى اليوم لا إثباتات لدي ولا حتى بطاقة أو وثيقة أو جواز سفر. عندما بدأ يدب اليأس إلى قلبي وكّلت أحدهم بالحج عني.. هذا قدري والحمد لله، برغم كل الألم الذي يملؤني ليل نهار أنا راض بما كتبه الله عليّ”.
يُنهي الشيخ عودة، الذي لم يتزوج لتعقيدات ظرفه، حديثه بدموع حارة أخرى بينما يقبض على يد الحاج جلعود بكل الحب والعرفان قائلاً “الحياة لا تعني لي الشيء الكثير.. سنوات تمضي كما هي.. سنوات لو جُمعت دموعها لروت فلسطين بكاملها وليس بير السبع فقط”.