د. فيصل القاسم
لا أريد بأي حال من الأحوال أن أناصر طرفاً لبنانياً على طرف، خاصة وأن المسألة اللبنانية عويصة ومعقدة ومتشابكة إلى حد كبير، ومن حق الجميع أن ينعموا بحقوقهم تحت مظلة الوطن اللبناني. لكن لماذا مسموح لكل دول العالم أن تعمل بمبدأ “الغلبة لمن غلب”، بينما ممنوع على لبنان أن يأخذ بذلك المبدأ الذي قد يبدو ديكتاتورياً ومتخلفاً من حيث الشكل، لكنه في واقع الأمر، شئنا أم أبينا، معمول به حتى في الدول الديموقراطية وغير الديموقراطية على حد سواء، لا بل منصوص عليه إسلامياً. من الذي يحكم الكثير من الدول العربية؟ أليس من يمتلك القوة، ويتغلب بها؟ أليس من يتحكم بالجيوش وقوى الأمن هو الذي يمسك بزمام الأمور في كل الدول دون استثناء؟ من يحكم الجزائر؟ أليس الجيش؟من يحكم المغرب؟ أليس الجيش والمؤسسة الأمنية الجبارة؟ وكذلك الأمر في مصر وسوريا والسودان ومعظم الدول الأخرى. فمن امتلك القوة العسكرية والأمنية يصبح حاكماً بأمره سواء رضينا أم عارضنا. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، ألا يحق للأقوياء في لبنان أن يتسلموا مقاليد الحكم في البلاد كما يفعل الأقوياء في الشرق والغرب على حد سواء، على اعتبار أن القوة حق:
might is right؟، وهو بالمناسبة قول انجليزي مأثور.
لقد أصبح معروفاً للجميع أن حزب الله هو القوة العسكرية والأمنية الأعظم في البلاد، فهو الذي استطاع أن ينتصر على أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط ألا وهي إسرائيل في حرب تموز. وإذا كان البعض يشكك في انتصاره، فهو، على الأقل، صمد، وأعاد تنظيم قواته استعداداً للجولة القادمة. ولو كانت حرب تموز قد دارت بين الجيش الإسرائيلي والجيش اللبناني لما صمد الأخير سويعات في وجه القوة الإسرائيلية الجبارة، بينما تمكنت قوات حزب الله أن تدفع بنصف سكان إسرائيل إلى الملاجئ لأكثر من شهر، ناهيك عن أن الأسرة الدولية تدخلت لوقف القتال بموافقة إسرائيلية وأمريكية. أليس من الأفضل للبنانيين أن ينضوا تحت لواء الأقوى عسكرياً في بلدهم؟ من الأولى إذن بحماية لبنان ومن ثم إدارة شؤونه، أو على الأقل المساهمة في حكمه بشكل أكبر؟ أليس أصحاب القوة؟
قد يقول البعض إن لبنان بلد ديموقراطي تعددي منفتح، وفيه أكثر من سبع عشرة طائفة مختلفة، ومن حق الجميع أن يشارك في العملية السياسية. وهذا طبعاً كلام لا غبار عليه أبداً، والإقصاء لأي طرف مرفوض رفضاً قاطعاً، لكن بشرط أن يعرف كل طرف قدر نفسه وحقه، وبأن لا يطالب بأكثر مما يستحق، كما تفعل بعض الأطراف اللبنانية التي “كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد”. فقد لاحظنا خلال الأزمة اللبنانية الممتدة منذ عدوان تموز عام ألفين وستة أن بعض الأطراف اللبنانية تتصرف كالأسود، بينما هي، في واقع الأمر، ليست أكثر من هُريرات من حيث القوة. ألم يكن حرياً بها أن تعمل بمبدأ: “رحم الله امرأ عرف قدر نفسه” عسكرياً وحتى بشرياً؟
لقد لاحظنا خلال الأيام القليلة الماضية كيف أن أصحاب الأصوات العالية جداً في لبنان الذين كانوا يملئون الشاشات زعيقاً وصريخاً وعنتريات لم يستطيعوا الصمود في شوارع بيروت لسويعات أمام بعض مسلحي حزب الله. وقد اختفت نبرة التحدي من خطابات الذين كانوا يصولون كالأسود بعد أن أصبحت حتى منازلهم في وضع “كش مات”. ولا نقول هذا الكلام شماتةً أو انتصاراً لطرف على الآخر. معاذ الله!. لكننا فقط نشير إلى وضع أصبح واضحاً للعيان ومعترفاً به حتى من المغلوبين أنفسهم الذين تبخرت ميليشياتهم التي أنفقت عليها بعض الدول “المعطاءة” الملايين تسليحاً وتدريباً ودعماً. فقد سلم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي مراكزه العسكرية بسرعة البرق للجيش اللبناني حفاظاً عليها من السحق تحت أقدام مسلحي حزب الله. ولم تستطع وسائل الإعلام التابعة لتيار المستقبل أن تنبس ببنت شفة بعد أن كانت تملئ الدنيا ضجيجاً وتهديداً وتحريضاً. لقد صمتت صمت القبور بعد أن اقتحمها بعض مسلحي الطرف الآخر، وحولوها إلى أنقاض. ولولا مراسلو بعض القنوات العربية لما استطعنا أن نعرف شيئاً عن وضع قوات الموالاة، أو حتى عن وضع قادة الأحزاب التي تشكل “جماعة الرابع عشر من آذار”، وهو بلا شك أمر مؤسف.
< div dir="rtl" style="margin: 0in 0in 0pt; direction: rtl; unicode-bidi: embed">وإذا تركنا الغلبة العسكرية لحزب الله جانباً لوجدنا أن هناك عوامل جديدة أخرى لا بد وأن تعيد رسم موازين القوى في لبنان الذي تتغير فيه المعادلات من قرن إلى آخر، إن لم نقل من عقد إلى آخر. فكما هو معلوم مثلاً أن الدروز كانوا في القرن التاسع عشر وقبله يهيمنون على لبنان، ويمسكون بزمام أموره. لكن قوة الدروز بدأت بالتلاشي عقداً بعد آخر ليصبح الموحدون أقلية ضعيفة في لبنان محصورة في منطقة الشوف، بدليل أن ممثليهم في الحكومة لا يتولون سوى الوزارات الثانوية كالاتصالات والمهجّرين وفي أحسن الأحوال الإعلام.
وما أن تلاشت قوة الدروز حتى برزت قوة الموارنة التي سادت لردح من القرن العشرين، بحيث كان لزاماً على اللبنانيين أن يقبلوا بأن يكون الرئيس اللبناني مسيحياًً في معظم الأحيان بحكم قوة المسيحيين سياسياً وبشرياً. لكن المسيحيين في لبنان بدورهم بدأوا يفقدون سلطتهم ونفوذهم بشكل خطير، ويتحولون إلى أقلية، مما حدا بالبعض إلى اعتبار إبقاء كرسي الرئاسة في لبنان فارغة مؤامرة، إن لم نقل إمعاناً في تهميش المسيحيين وتجريدهم من أسباب قوتهم. وبغض النظر عن صحة هذا الكلام، فإن الدور المسيحي في لبنان بدأ يتلاشى فعلاً رغم الرعاية الفرنسية والغربية عموماً، وكذلك أيضاً دور المسلمين السنة، لصالح المسلمين الشيعة الممثلين بحركتي حزب الله وأمل، والذين باتوا يمثلون حوالي نصف الشعب اللبناني، فيما النصف الآخر من اللبنانيين يتشكل من موزاييك من الطوائف والجماعات الصغيرة. لكن هذا لا يعني أن يستأثر الأقوياء بالسلطة، ويهمشوا الضعفاء، بل عليهم أن يعطوهم ما يستحقون من السلطة كل حسب قوته البشرية وتأثيره ضمن إطار ديموقراطي، كما هو الحال في الديموقراطيات العتيدة كأمريكا التي ينص دستورها على أن يكون رأس الحكم من دين الأغلبية، فليس من حق اليهودي مثلاً أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة.
قد يجادل البعض أن العبرة ليست في الكثرة العددية، بدليل أن هناك أقليات تحكم الأكثريات في الكثير من بلدان العالم. وهذا صحيح، لكن تلك الأقليات تمسك بزمام القوة العسكرية، وتحكم بها شاء من شاء وأبى من أبى. بعبارة أخرى فإن العبرة تكمن في امتلاك القوة. هل أحكم الأمريكيون قبضتهم على العالم إلا من خلال البوارج والأساطيل الحربية؟ ألم يحكم البريطانيون امبراطوريتهم التي لم تكن تغيب عنها الشمس إلا بقوتهم البحرية الأسطورية؟ وكذلك كل القوى الأخرى.
وإذا كانت الأمثلة التاريخية والعسكرية لا ترضي البعض، فهناك، حسب حديث شريف، إثباتات إسلامية تؤكد ما يُعرف بـ”ولاية التغلـــّب”: “وإن تأمر عليكم عبد”، أي إذا “غلب عبد على الإمارة، فبايعوه وأطيعوه واسمعوا له”،لأن البيعة هنا أصبحت بيعة تغلـــّب، والولاية ولاية غلبة وسيف.
فدل هذا على أن ولاية الغلبة يجب أن تكون لمن غلب فتولى، كما تجب للإمام الذي يُختار اختياراً، لا فرق بينهما في حقوق البيعة والسمع والطاعة، وذلك لأجل المصلحة العامة”.
لكن لا شك أن من حق المعارضين لحزب الله في لبنان أن يتخوفوا من سطوته العقدية، وحكم الملالي، خاصة وأن لبنان بلد علماني منفتح، بلد الحرية والحضارة والفن والثقافة والأدب، بلد فيروز والرحابنة. فهل سيبقى كما عرفه اللبنانيون، فيما لو أحكم الغالب الجديد قبضته على بلاد الأرز؟
لا شك أننا نتوق على أحر من الجمر لتطبيق الديموقراطية في بلداننا، ولأن تكون المواطنة، لا المذهب، أو الدين، أو الجيش، أو العرق، أو القوة ،هي أساس الحكم. لكن العين بصيرة واليد قصيرة، وأرجو أن تصبح يوماً ما طويلة. وسلامتكم!