د. أسامه محمد أبو نحل
لبنان جنة الله على أرضه، وواحة الحرية المنشودة
د. أسامه محمد أبو نحل
لبنان جنة الله على أرضه، وواحة الحرية المنشودة في العالم العربي الكبير من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. هكذا كان وهكذا يجب أن يكون، وإن حاول البعض تخريبه لحساب مصالح إقليمية ودولية. المشكلة عند الذين يتناولون المسألة اللبنانية من أهل السياسة، لا يرون في لبنان سوى التموُّجات الدينية والمذهبية التي يعجّ فيها، ونسوا أو تناسوا بقصدٍ أو عن جهل، أنه في لبنان لم تكن الصراعات التي دارت بين سكانه عبر التاريخ كلها طائفية أو مذهبية، بل غلب في كثيرٍ من الأحيان عليها التغليف الحزبي. ونسوا أو تناسوا أن معظم المشاكل التي أرَّقت أهالي لبنان، هو كثرة التدخّلات الخارجية في شؤونهم. ونسوا أو تناسوا أن هؤلاء الرهط من سكان لبنان على الرغم من تفوقهم الحضاري على بقية الشعوب العربية، تميّزوا بالغباء السياسي لدرجةٍ جعلتهم دُمية في أيدي اللاعبين الخارجيين، ولم يحاولوا قط إلاَّ ما ندر أن تكون لهم شخصية مستقلة متميزة.
كان لا بد لي من هذه الديباجة القصيرة للولوج فيما نويت التطرق إليه، فيما يخص المعضلة السياسية التي يترنّح لبنان فيها الآن، وصل إلى حد أن اضطر حزب الله أكبر قوة عسكرية فيها، وزعيم حركة المقاومة وقوى الممانعة، إلى اللجوء لحسم الصراع السياسي في لبنان أو ما يشبه ذلك، دون الانقلاب على سلطة الدولة. لكن على القارئ الكريم أن يُدرك جيداً أن الصراع الدائر الآن في لبنان ليس مذهبياً – أي بين السُنَّة والشيعة – وإنما صراعاً حزبياً في المقام الأول. صراع بين حزبين لا ثالث لهما، أو فلنقل بين برنامجين. والوقائع التاريخية أثبتت لنا، أن الصراع الحزبي في لبنان، لم تتدخل فيه النزعات المذهبية والطائفية، فلبنان دوماً كان يتكّون من حزبين اثنين هما الحزب القيسي والحزب اليمني. وكانا على حدٍ سواء يحتويان على كل عناصر سكان لبنان من مسيحيين موارنة ومسلمين بشقيهم الشيعي المتنفذ في جنوب لبنان (جبل عامل) وبعلبك والهرمل، والسُنَّة في شمال لبنان ودروز في جبل لبنان والشوف. ولا غضاضة في أن يحارب كل حزب أشقائه في الحزب الآخر ما داموا مختلفين عنهم في الانتماء الحزبي.
ومع منتصف القرن التاسع عشر تبدّلت أهداف الصراع بين العائلات اللبنانية من حزبية قبلية إلى طائفية بسبب تدخل القوى الأوروبية الخارجية خاصة فرنسا وبريطانيا، حيث أدعى الفرنسيون حمايتهم للمسيحيين وبريطانيا التي أدّعت حمايتها للدروز، مما أدي في نهاية المطاف وحتى تاريخه؛ أن أصبح الصراع بين الطوائف الدينية من أجل الحصول على زعامة لبنان.
وبعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990م، تحوّل لبنان مرة أخرى إلى الصراع الحزبي من جديد، لكن دون قيسٍ أو يمن، فلبنان الآن يحدد مصيره السياسي عائلات إقطاعية قد يكون لبعضِها عراقة تاريخية كآل جنبلاط على سبيل المثال، وأخرى حديثة العراقة كآل الجميّل وآل الحريري، ولاحظ عزيزي القارئ أن تلك العائلات هي في الأساس درزية ومسيحية مارونية وسنيّة، وتكاد تختفي الإقطاعية في وقتنا الحاضر بين العائلات المسلمة الشيعية (المتاولة). أو بمعنى آخر حدث تحوُّل نوعي في الإقطاعية السياسية اللبنانية عما كان عليه الوضع خلال القرون الخمسة الأخيرة؛ حيث كانت الإقطاعية متنفّذة في العائلات الدرزية والمسيحية والشيعية، وقلَّما كان للسُنَّة دورٌ إقطاعي بارز؛ لذا يتم الآن استغلال الطائفة السُنّية من جانب الولايات المتحدة في صراعها ضد إيران الشيعية، لتبيّن أن الصراع الدائر الآن في المنطقة هو بين الشيعة والسُنّة، وليس بين حزبٍ وآخر. علماً بأن السُنّة في لبنان لا قيمة سياسية لهم بخلاف أكثريتهم العددية مقابل الشيعة، ومما يؤسف لهم أنهم هم الذين ارتضوا لأنفسهم هذا الواقع. وفي تاريخنا المعاصر عندما حاول آل الحريري السُنّة أن يكون لهم وزن بين بقية الطوائف الأخرى، كانوا من الغباء بحيث تمَّ ولا زال يتمَّ استغلالهم من جانب بقية الطوائف الأخرى. وما حادثة اغتيال رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، إلاَّ معلم من معالم هذا الاستغلال السياسي من جانب بعض أفراد الطوائف اللبنانية، بعدما لبسوا مسوح التأييد والمؤازرة لحساب سُنّة لبنان.
ما يجري الآن على الساحة اللبنانية هو مجرد تبديل أدوار للاعبين الإقطاعيين اللبنانيين. فبالأمس كانت هنالك حكومة في جبل لبنان تخضع لأهواء ولاة الدولة العثمانية، وأعدائها من الأُسر الإقطاعية يتصلون بأعدائها لتحقيق أهدافهم. وما أشبه الليلة بالبارحة، الأمر نفسه يتكرر، مع اختلاف الزمن والأدوات وقوة المُتَصَلْ بهم، دون إعمال الفِكر من جانب تلك الأُسر الإقطاعية ومن لفَّ لفها في النتائج الوخيمة، التي عادت على بلادهم بالأمس من تحول الصراع بينهم من صراعٍ حزبي قَبلي إلى صراعٍ طائفي، ولا يعلم أحد إلاَّ الله ما الذي سيترتب عليه الأمر في المستقبل القريب من الاتصالات الحالية، وإن كنا نعلم مسبقاً أن أول نتيجة ستسفر عنها تلك الاتصالات، هي فقدان لبنان لهويته التي سعى لتثبيتها بشتى السُبل.
إن ما قام به حزب الممانعة في لبنان بالأمس الأول لم يكن إلاَّ عملاً استباقياً من جانبه لوضع حدٍ للتغلغل الأجنبي الذي بدأ يتسّرب وبقوة في لبنان، والذي يدعمه الحزب الآخر الممالئ لقوى الاستعمار وأدواته في المنطقة العربية. وقد يقول قائل إن ما قام به حزب الممانعة من هذا التصرف هو فخٌ نُصب له ليسهُل فيما بعد الإجهاز عليه، بعدما يغرق في أتون حربٍ أهلية. غير أني لا أتماشى مع هذا القول، فحزب الممانعة في لبنان ليس غُراً إلى هذا الحد، وإنما قام وفعل ما فعل لأنه متيقّن تمام اليقين إن لم يكن السبّاق فسوف تُفرض عليه الأمور، ولن يكون بمقدوره مباغتة خصومه. وما خطاب فؤاد السنيورة رئيس الوزراء اللبناني ظهيرة اليوم إلاَّ ليؤكّد صحة ما ذهبنا إليه.
السنيورة وعلى الرغم من إنه حاول أن يظهر كأنه وأعوانه مسالمين، لا يبتغون التصادم مع قوى المعارضة، إلاَّ أن بعض العبارات التي تفوه بها أظهرت ما يضمره وفريقه دون أن يدري من المقاومة وسلاحها. فأولاً: قال أن القرارين الخاصين بسلاح الإشارة للمقاومة لم يُتخذ بعد، وأنهما تحت تصرف قيادة الجيش اللبناني. وهذا كلام غريب ومتناقض في آنٍ واحد، فكيف لهذين القرارين سيكونان تحت تصرف الجيش وهما لم يصدرا بعد، أو بمعنى آخر أن طلبه لقيادة الجيش بأن يكون هذين القرارين تحت تصرفه، يعني في التحليل الأخير أن ثمة قرارات بالفعل قد اُتخذت. وثانياً: إن قول السيد السنيورة أن سلاح المقاومة أو حزب الله يجب أن يكون للدولة رأياً فيه، بالتالي فهو يعني ما يقول وأن النية موجودة لوضع سلاح المقاومة تحت إمرة الدولة العاجزة أصلاً عن حماية نفسها وحماية البلد. وما قاله السيد السنيورة ما هو، إلاَّ توطئة لطلب الحكومة اللبنانية لاحقاً بالتدخل الأجنبي لطي صفحة أزمة سلاح المقاومة نهائياً.
إن فريق السلطة أو الموالاة في لبنان، وإذ يُدرك عجزه في مقارعة حزب الممانعة فإنه يراهن على أن تتطور الأمور فيما بعد لتضحى المسألة حرب أهلية شاملة على أبعد تقدير، أو حربٍ مذهبية سُنّية شيعية، يتورّط خلالها سلاح المقاومة ويصبح بالإمكان التخلص من سلاحه بحكم الأمر الواقع.
إننا نبتهل إلى الله أن يلطُف بلبنان وأهاليه، بعدما أصبحت السياسة في عرفهم ليس فن الممكن، بقدر ما أصبحت بفن كيفية الانتقام من وطنهم وأشقائهم على مذبح الديمقراطية التي ينبئهم بها أنبياء الغرب.
الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر
جامعة الأزهر – غزة