تقليعة إعلامية عمد إلى استخدامها الإعلام الصهيوني في ذكرى النكبة ومرور 60 عاماً على احتلال الأراضي الفلسطينية. هذه التقليعة متمثلة في سرد “قادة الاحتلال” للحظات تاريخية مشهود لها في حياتهم مثل “لحظة انطلاق أول طائرة نفاثة”، تهدف في محصلتها إلى إضفاء نوع من “الإنسانية” للاحتلال وبعداً إعلامياً لمواجهة التقارير الإخبارية العالمية التي وردت في الفترة الماضية عن الآلة العسكرية الصهيونية وجحيمها في غزة.
أقول لهم اليوم بأن لحظاتكم التاريخية لا تساوي شيئاً أيها الخبثاء، فاحتشاد آلاف اللحظات وشظايا الآلام عندي خلال فترة الستون عاماً الماضية، كافية لأن تقزّم مسار حياتكم، لأنه كان محتوماً عليّ أن أشعر بفلسطينيتي قبل ولادتي.
لست وحدي هنا، فجميع الفلسطينيين في كافة أنحاء الكرة الأرضية التي تعد منفاً لنا جميعنا لحين عودتنا إلى فلسطين، لديهم لحظات فلسطينية كل يوم تقريباً تختلف باختلاف وقع حياتنا اليومية وتتحد بآلامها وأوجاعها المستمرة.
لحظتي الفلسطينية التي اخترتها هي لحظة تذوقي أول قطرة من زيت الزيتون من أرض فلسطين.لا أذكر بالتحديد كم كان عمري، ولا أذكر في أي بيت من البيوت التي تنقلنا بينها خلال حياتي مع عائلتي في المنفى حتى الآن، ولا أذكر إن كان الوقت نهاراً أو ليلاً، ولكنني أذكر بأنه عندما لامس زيت الزيتون شفتاي، أحسست بقشعريرة تسري في جسدي، تبعها إحساس بنشوة عقلية ومن ثم توقف الزمن عندما وصلت أول قطرة من قطرات زيت الزيتون الفلسطيني إلى حلقي.
لا أذكر ما حدث بالتفصيل، ولكني أذكر بأن دمي قد سارع إلى إفساح المجال لهذه القطرة لتقود مسيرة دورتها في تلك اللحظة، فحمل دمي هذه القطرة وجرى بها لتطبع بصمتها على جدران شراييني وأوعيتي الدموية، وأدفأت القطرة جسدي الذي كان متشوقاً للتعرف على قوام أصيلة من الأرض المقدسة، وأضاءت القطرة الطريق بلونها الذهبي المبارك، وتركت أثر صبغتها على عظامي، وأثر عطرها في رئتاي، واحتضنتها أجهزة المناعة وأفرزت هرموناتي مزيجاً من المشاعر الأبدية تعبيراً عن بهجتها لوصول القطرة إلى مشارف غددها، حتى وصلت القطرة إلى قلبي وهي تسبح على أنغام صفائح دمي.
هدأت جميع أعضائي الداخلية عند لحظة وصول القطرة إلى قلبي، فلقد أراد القلب التوقف في تلك اللحظة، أراد أن يحضن هذه القطرة ويتوقف عن النبض حتى لا تذهب بعيداً عنه، فهي الأب والأم والأخ والأخت والابن والابنة والجد والجدة لهذا القلب، ولكن جسدي أبى إلا أن يعود إلى الحياة مرة أخرى، فتوصل إلى تفاهم أزلي مع القلب تعهد فيها جسدي أن لا تكون هذه القطرة هي الأخيرة من ريحان فلسطين، وتعهد القلب بأن يطلق القطرة لتكمل دورتها الأخيرة داخل جسدي على أن يحتفظ بقطرة صغيرة يقوم بتزويجها لجيناتي الوراثية في حال لم يتسنى لهذا القلب في فترة وجوده داخل هذا الجسد الفاني أن يستنشق رحيق منبعها، لينقلها إلى الأجيال القادمة.
نبَض القلب، وأدمع وبكى وناح عند مفارقة القطرة له، وأوجع صاحبه، وتطايرت لحظتها قطرات زيت زيتون صغيرة ملأت جوف جسدي الفاني، وكأنه غرفة خالية برقت بضوء باهر ذهبي للحظة ليعود إلى ظلمته مرة أخرى، لانتفض بعدها بشهقة وأعود إلى وعيي مرة أخرى.
منذ تلك اللحظة وحتى يومي هذا، أنتظر بفارغ الصبر “تنكات” زيت الزيتون لتصل إلينا من أرض فلسطين الطاهرة لينتفض القلب مرة أخرى ويشتعل الجسد ألماً وفرحاً باللقاء.
وائل محمد البرغوثي